ثلاثة مشاهد عشتها خلال الايام الماضية، مواقف ليست بتلك الغرابة بل ببساطة هي مشاهد إنسانية نعايشها وقد لا نلتفت لها كثيراً ولكن احب ان ارويها حتى لو كانت بسيطة، فبالاخير ليس هناك ما هو اجمل من البساطة بإعتقادي!
المشهد الاول
يوم الإثنين الماضي بتاريخ 22\2 ذهبت مع امي لطبيب الاسنان، في قاعة الإنتظار كنا مع اب مع عدة اطفال عددهم 5 يرافقون ابوهم وكان الاب هو المريض ودخل لغرفة الطبيب والاطفال المشاغبين منتظرين خروجه.
في غرفة الإنتظار كان هناك خريطة حديثة للعالم، وتحتوي الخريطة في زواياها على معلومات اوليه عن دول العالم متضمنه اعلام الدول، آخذ الاطفال -اعمارهم تتراوح بين 3 و8 سنوات- يتطلعون بإهتمام للخريطة كمن يبحث عن شيء ما، فجاة صاح احدهم بكل عفويه وبلهجه يافعيه: "رعه علمنا" يعني "هذا هو علمنا" عندها نظر اخوته للعلم واخذوا يتناقشون
احدهم يقول: " لا لا ما شي هوه علمنا رعه مقلوب" يقصد أن العلم خطاء وأنه مقلوب
آخر يقول: " كيف؟ حقنا المثلث ازرق ماشي هوه أحمر!" يقصد انه المثلث في علمنا ليس اسود
لم اهتم لما كانوا يقولوه إلا عندما سمعت كلمه المثلث الازرق! بعدها ركزت اكثر معاهم وبعد نقاشهم المستفيض وجدالهم حول صحه "علمنا" إتفقوا ان العلم الذي اشار إليه اخوهم ليس علمنا وعادوا للإهتمام بشيء آخر غير العلم والخريطة، قمت بعدهم انظر أي علم كانوا مختلفين عليه، فرايت أنه علم الاردن.
بصراحة كان شعوري غريب عن نقاشهم حول علمنا فهم يتكلمون عن علم الجنوب وليس اليمن بالطبع، ونقاشهم البريء حول العلم كان تلقائي للغاية كما لو أن الجنوب قد فك إرتباطه عن الشمال واصبحنا دولة مستقلة من جديد ونعيشه واقعاً، لكنني لا استطع ان اخفي إبتسامتي كلما تذكرت تلقائية الاطفال في نقاشهم، يبدو أن جيلنا الحالي في الجنوب اكثر توقاً للإستقلال من الجيل السابق الذين يناضلون الان لاجلنا وأجل مستقبلنا.
لحقه لمغزى هذا المشهد كان حديث احد المعلمين لنا في مقيل للقات قبل ذلك بأيام عندما قال بالحرف الواحد: والله ما اشتي اموت قبل ما اشوف الجنوب يتحرر.. نحن ندرس الطلاب في المدرسة الان معنى الجنوب كل يوم.
المشهد الثاني
المشهد الثاني اقل دراميه من الاول وقصير حصل يوم امس السبت 27\2 في الباص في طريقي من كريتر إلى المعلاء.
كان الهدوء يسكن الباص ثم بعدها ربما بداء نوع من الكلام لم اكن مركز عليه بقدر تركيزي على ما خلفه مطر الليلة السابقة في طرقات عدن من خراب، إلى أن جذبت إنتباه الجميع صوت يرتفع بقول احد الركاب في الخمسينات من عمره: والله إنكم ما تستحون
وآخذ يرفع صوته ويسهب بالكلام بنوع من العصبية الخفيفة لكن بصوت كان مملوء بكثير من الالم والحزن بنفس الوقت كما اجمع الجميع بعد نزوله وكان من كلامه الموجه لاحد الركاب ولفت إنتباهي هو:
إنتوا اصحاب تعز وإب مدعوسين دعس بس لما تجوا عدن تحسوا بحريه عندنا...إنتم مدعسين من الزيود مثلنا بس إحنا ما رضينا، إحنا إنتفضنا واهلنا يقتلوهم في المظاهرات والمعتقلين بالالاف لاننا رجال وما نرضي حد يرفع نخرته علينا...إنتوا اهل المناطق الوسطى حوالي ستة مليون ما لكم اي صوت، يا ريتكم تخرجوا معنا بمظاهرة واحدة، بس لا ما دام راسكم مرفوع بالجنوب عادي عندكم يدعسوكم في تعز...إحنا بإسم الثورة بعد الإستقلال شاركناكم حتى ببيوتنا، كان اي واحد يهرب من الشمال للجنوب يصبح واحد مننا لاننا اخوه ويستلم بيت من الدولة مثل اي جنوبي ووظيفة وحتى رئيسنا عبدالفتاح كان من تعز وما كان حد يفكر انه في اي مشكلة، واليوم بعد 94 نسيتوا كل شيء قدمناه لكم وصرتوا جواسيس علينا تشتغلوا مع علي عبدالله...إستحوا على انفسكم وإوقفوا معنا حتى بكلمة على الاقل رد لما قدمناه لكم زمان مش ترجعوا مع الزيود علينا وانتوا اول من ينهان منهم.
اصوات التاييد له في كلامه داخل الباص كانت واضحة، بل أن الرجل الآخر لم يجب عليه بكلمة واحدة واخذ يبتسم بخجل..
ختم الرجل كلامه بقوله: إحنا خلاص غير الإستقلال ما نرضى أو على كيف قدمنا اكثر من 100 شهيد؟ رجعوا لنا الشهداء احياء ونرجع للوحدة حقكم، أما الان قد إنطلقنا ولن نرجع، بس كونوا رجال ولا تشتغلوا جواسيس.
نزل الرجل الذي بالمناسبة اعرفه من بعيد واعرف من اين هو لكن لا اعرف اسمه، وطبعاً كلام الرجل فيه ما فيه ومافي داعي لتعليق.
المشهد الثالث
هذا المشهد حصل معي اليوم الاحد 28\2 في الباص ايضاً الذي فيه حياة يجعلك في إحتكاك دائم مع البشر ويعرفك على ما يدور في الشارع بشكل قريب جداً لتفكير الغالبية الساحقة من المواطنين.
في طريقي لمحطة المعلاء في الميدان بكريتر كان الباص فارغ إلا من راكبة في الستينات من عمرها، لكنها تقابلك بإبتسامة تحمل الكثير من صفاء الروح، صعدت الباص وكنت في المقعد الذي قبلها مباشرة، قمت بإخراج صحيفة الشارع لاقراء في وقت الإنتظار للركاب.
بينما اقراء دنت نحوي وقالت: إيش في من فضايح يا إبني؟ ضحكت ورديت: البلاد كلها ملخبطة.
دنت اكثر مني وقالت: من وين انت؟
قلت: من يافع
قالت: تعرف من هو طماح؟
قلت لها: نعم
قالت: يعني تعرف إنهم قتلوا إبنه.
قلت:ايوه فارس..الله يرحمه
قالت: شفه إبن خالي، ابوه هو إبن خالي
بصراحة لم اعرف ماذا اقول...لم تكن حزينه بل كانت لا تزال محتفضة بإبتسامتها وهي تتكلم بهدوء جميل
قات مره ثانية: الله يرحمه
كان الباص بداء يمتلىء وطلبت الصحيفة عشان تشوف الاخبار..قرأت شويه وقالت ممكن تشتري لي زيها من المكتبة
الباص كان باقي نفر قلت لها وبعيد اورح الشتري وارجع رغم قرب كشك الصحف قلت لمها: خلاص خذي المجلة
شعرت بالسرور وقالت: شكراً يا إبني
ما شدني لها هو الهدوء والإبتسامة المتواصلة عليها، وكلامها اللطيف مع الجميع حتى أن سائق الباص لم ياخذ منها حق المواصلات برضه، وتكلمت ايضاً حول الجنوب مجدداً وكانت تدعى بالخلاص من الدحابشه وتقراء الاخبار للجميع في الباص من الصحيفة.
سرحت شويه اتخيل كيف كانت في شبابها، مع ثقتها القوية بنفسها وإبتسامتها وكلامها اللطيف مع الجميع وحضورها في الباص خلال دقائق فقط، احسست أنها إمرأه عظيمة برغم مقتل احد اقربائها في سجن المعلاء بتهمة الإستماع لاغاني عبود خواجه الجنوبية وتعذيبة لكنها كانت متزنه ومثقفة في كلامها.
عند نزولها ربتت على كتفي مره آخيرة وقالت لي: شكراً على الصحيفة ومع السلامة يا إبني.