كانت حصة مادة التربية الإسلامية، وانا على ما اذكر في الصف السابع (13 سنة) وكان أستاذ المادة -كان ولا يزال أحد افضل المدرسين الذين تعلمت على أيديهم- قد فرغ من الدرس لتوه وجلس يمازحنا. فجأة سأل احد الطلاب الاستاذ: يا أستاذ (...) هل انت سني او شيعي؟
أجاب الاستاذ مبتسماً: إن شاء الله على منهج أهل السنة والجماعة.
وللأمانة الاستاذ لم يخض اكثر في الكلام ولم يزد كلمة عما قاله، ولم يحاول ابداً فرض رايه او تلقيننا إياه بأي شكل، وانا احسب هذا الشيء نقطة مضيئة له في وجداني، خصوصاً أن الاستاذ كان له مكانه كبيره في نفوسنا.
كانت هذه هي المره الاولى بحياتي التي أسمع فيها كلمة سني وشيعي! وبصراحة كان وقعها غريب جداً.. عن ماذا يتحدثون؟ من هم السنة؟ من هم الشيعة؟ من هم الجماعة؟ هل هم حزب سياسي؟ من اين هم؟ لماذا هو سني اصلاً؟ لماذا..لماذا..ولماذا..عشرات الاسئلة دارت برأسي الضغير، بصراحة شعرت بفضول كبير للغاية لأعرف.. وقد عرفت الكثير فيما بعد..
اريد إيضاح أمرين: الاول هو كيف أننا جميعاً نشانا على شيء إسمه إسلام فقط لا اكثر ولا اقل! والجو العام في مجتمعنا لا يذكر المذهبية بأي شكل، فقط الصوفيين الذين لهم مكانه في مجتمعنا واصبحوا جزء من نسيج ديني-قبلي مختلط وهم عموماً ميالين كما تسميتهم للتصوف والزهد عموماً وإنطباعنا عنهم لم يكن ابداً مذهبي بل بإعتبارهم من رجال الخير وهم -كانوا- غالبية الائمة في مساجدنا.. لهذا الإنطباع أنهم اشبه بأناس ملتزمين دينياً اكثر من غيرهم اكثر من أي إنطباع آخر طبعاً قبل ان تدخل علينا الوهابية بسبب الهجرة للسعودية ويظهر لنا مصطلح "المطوع" أما غير ذلك فلا شيء.
طبعاً السبب يعود بإعتقادي لعدم وجود فرق طائفية اساساً عندنا ولهذا فلا يوجد نوع من التحفز ضد آخر غير موجود، نعم هناك الزيود وكثيراً ما يتم الحديث عن الزيود حتى قبل التوحد مع الشمال في عام 1990، لكن لم اشهد محادثة شخصية في مجتمعي عن الزيود من منطق ديني أبداً سوى مره واحدة خلال حرب الحوثيين الخامسة على ما اذكر وكان ذلك في نقاش بين الزملاء بالكلية وأما قبل ذلك فكنا نتكلم عنهم كثيراً من منطلق جغرافي وأنهم شماليين وأن تاريخنا حافل بالقتال معهم على مدى قرون بسبب أطماع التوسع ولم نتكلم عنهم كمذهب أبداً.
الامر الأخر هو أهمية تنشئة الاطفال على هاجس المذهبية التي أرى انها وصلت لمدى بالغ محبط من إشغالها تفكير كثير من المجتمعات الإسلامية اليوم. فانا اتوقع لو أن الاستاذ اشبعنا حينها بحزمة من الكراهية والتهديد من الشيعة لإنغرست بنفوس الكثيرين من الطلاب وربما كنت كذلك منهم ايضاً ..لهذا انا احمد الله أن الاستاذ لم يفعل! لكن الوضع قبل اكثر من 10 سنوات ليس كما اليوم، حينها لم يكن هناك إحتقان مذهبي مقارنة باليوم بشكل عام -في مجتمعنا الجنوبي اليوم لا يوجد على اساس سني-شيعي ولكن ربما يمكن القول أن هناك خلاف شافعي-وهابي يتصاعد!- فيا ترى ماذا يفعل المدرسين بعقول الصغار اليوم ونحن نراهم يمسخون تفكير الكبار اصلاً في كل منبر يصلون له..تفتح التلفزيون فتجد ترهيب.. تفتح النت فتجد العجب العجاب.. تذهب للمسجد فتجد القذف بدون حياء ولا خجل من أنهم بمساجد بنيت لذكر الله لا غير!.. تصعد للباص العام فتسمع سموم التكفير على الملاء تصدح من المسجلة! الامر جد مرعب فعلاً.
اتذكر هنا المثل المعروف "التعليم في الصغر كالنقش على الحجر" وهو خطير بقدر ما هو صحيح وذلك لأنه تلقين اي معلومة بهذه السن الصغيرة هي معلومة بإتجاة واحد لدماغ الطفل وتنقش فيه بدون إمكانية للصغير للتحليل والتفكير كما هي للكبار، وبالتالي تنغرس كمبادىء لا يمكن زحزحتها في الكبر إلا بعد صراع عنيف قد يؤدي للهلاك إن كانت اصلاً مبادىء مهلكة، وهنا نرى تفسيراً لماذا في الغرب اصبحت المواد الدينية خاضعة لإشراف الاهل ورغبتهم بتعليمها من مصادر أخرى غير المدرسة لاطفالهم، طبعاً هنا لا انادي بوقف المواد الدينية وإنما بحصرها في المبادي لجوهر الإسلام لا غير وغير ذلك من الخوض في امور خلافية لمراحل الجامعة، فمن المطلوب مثلاً ان نتعلم أن الصلاة واجبة وتركها ذنب كبير، لكن لا يجب أن نقول للاطفال في هذا السن أن تركها كفر، فماذا بالله قد يفهم عقل الصغير من امور الكفر والتكفير!
في خلاصة الكلام أقول أن التربية الصحيحة على حب الأخر والتسامح هي أرقى تربية وهي الوحيدة اصلاً كسبيل للتعايش المشترك، فغير ذلك يكون الصدام الذين ادخل مجتمعاتنا في دوامة دموية لعينة.
وأنا شخصياً كان هناك موقف تربوي صارم ترك بصمته على ما كان يدور بخيالي الصغير حول الموضوع، خصوصاً بعدما حاولت قرأة بعض الكتب حينها وتعمقت بعض الشيء لأصطدم بوجود مصطلحات أمثال اخرى عديدية مثل الشافعية والحنبلية والمالكية والإسماعيلية والزيدية والصوفيه وغيرها من مصطلحات جميعها ذاتي مدلول إسلامي!! وهو ما جعلني احتار كثيراً، كان بحثي أنذاك خارج السياق الطبيعي فنحن في مجتمع لا يشجع هكذا خوض في امور خلافية وخصوصاً للصغار والاخص في اسرتي الكبيرة، لهذا عندما فاتحت إبن عمي الذي كان بمرحله الجامعة حينها أمام امي وسالته فجأة: ايش الفرق بين الشافعية والحنبلية والزيدية والمالكية؟
فكان رده الحازم والصارم: ما عليك من هذا الكلام الفاضي ولا تفكر فيه فليس هناك أي فرق بينهم، تعرف ليش؟
قلت: ليش؟
قال: جميعهم ينطقوا بالشهادة عندما يحضرهم الموت..إذا هم جميعاً مسلمين لا اكثر ولا أقل!
أمي إرتاحت وإبتسمت للكلام الذي وضع حداً لفضولي الذي ازعجتها فيه عده أيام وكذلك انا إرتحت ايضاً، وكان لكلامه ولا يزال الاثر الكبير في إقتناعي وتركي البحث عن الموضوع برمته والعودة لمجلة ماجد :) بعد إنقطاع ليس بقصير واقول بكل ثقة أنا مسلم فقط..لا اكثر ولا أقل!