مقال جميل في نيوزويك عن حالة اللاتسامح التي تغرس نفسها عميقاً يوماً بعد يوم في مجتمعاتنا العربية بالذات، المؤسف أن هذه الثقافة المهلكة تتخفى تحت قناع الدين من الجانبين ومن الجانب الإسلامي السلفي بالذات وكانما بهؤلاء الذين يدعون الوصاية على البشر قد تناسوا أن جار رسولنا الكريم كان يهودي وكان الرسول باراً فيه اكثر من جاره المسلم !! فكيف وصلنا لهذا الفكر المتحجر اليوم برداء إسلامي يشبه تماماً رداء يوسف.
بقلم حسن عبدالله
الثلاثاء 26/1/2010
الآن، تبدو لي علاقتهما حكاية يجب أن نتذكرها، في ظل الأحداث الطائفية، التي تعصف ببعض المناطق في جنوب مصر.
في مطلع سبعينات القرن الماضي، كانت أسرتي تسكن منزلا في قرية صغيرة تطل على النيل في إحدى الضواحي الريفية للقاهرة. معظم أهل القرية ينتمون إلى الشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة، ويمتهنون حرفا بسيطة، أو وظائف متدنية في مصنع الزجاج القريب، أو مصانع المياه الغازية والنسيج البعيدة.
غالبية السكان يعتنقون الإسلام، ويغلب عليهم الجانب الصوفي الروحاني المتسامح، وينتظم الكثيرون منهم في حلقات الذكر الخاصة بالطرق الصوفية التي كانت تنتشر بكل أطيافها.
وثمة أقلية مسيحية تجمعت بيوتها اختياريا في حارة ضيقة، أطلق عليها اسم "حارة النصارى". ويعمل أفرادها في صناعة الفؤوس الخشبية التي كان فلاحو القرية ينقرون الأرض بها، وفي ترميم النوارج التي كانت تعلق أذرعتها في رقبة الحمير والبقر لتقليب التربة قبل بذر البذور، وكذلك في تصليح الأبواب والشرفات.
انكسرت إحدى الشرفات في منزلنا، فاستدعى أبي غالي، النجار المسيحي المرح، لإصلاحها. أتم غالي مهمته وجلس يتسامر مع أفراد الأسرة. والدي، الذي كان ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين في مطلع شبابه، أي في العقد الثاني من نشأتها عام 1928، ثم ترك الجماعة احتجاجا على تناقض سلوك أعضائها مع القيم التي كانوا يعظون الناس بها، وخاصة الاتجاه نحو العنف، لم يكن لديه ما يشغله بعد العودة من العمل إلا السمر مع الأصدقاء وتدخين الشيشة المصرية المعروفة بـ"الجوزة" والاستماع إلى صوت أم كلثوم الساحر. نظر غالي إلى الشيشة بامتعاض وخرج من دون أن ينبس بكلمة، ثم عاد بشيشة أخرى أنيقة ومتدفقة. رص الأحجار بالتبغ ووضع النار فوقها وقدمها إلى والدي. سعل أبي بشدة من دفق الدخان، وهز رأسه ولمعت عيناه وهو يتبادل الجوزة من فم إلى فم مع غالي، الذي كان يسحب الدخان ويطلقه من أنفه وفمه في تشكيلات ظريفة جدا. وراح الرجلان لأكثر من ربع قرن، يلتقيان بشكل شبه يومي ويتسامران في كل الأمور. وطالت صداقتهما أبناء الأسرتين وأسرا مسيحية أخرى. لم يكن الدين مطروحا بأي صورة من الصور، بل كان أحدهما يداعب الآخر أحيانا بأن يتبادلا الدين، فيعتنق أبي المسلم المسيحية ويعتنق غالي الإسلام، ثم يسحبان أنفاسا عميقة من "الجوزة" التي كان غالي متخصصا في إعدادها. غالي كان يغيب كل يوم أحد للذهاب إلى الكنيسة التي كانت تبعد أكثر من 40 كيلومترا عن القرية، ويعود في اليوم التالي ليحكي كل ما دار في صلاته. يظهر في صوته أسى وهو يتحدث عن بُعد الكنيسة، والمشقة التي يعانيها في رحلته. سألته مرة: لماذا لا تبنون لكم كنيسة في القرية؟ فنظر بحزن وتنهد وهو يقول: "ليتنا نستطيع ذلك. هذا أحد أحلامنا".
ومرت السنون وتدفق ماء كثير في النهر، وسافر المصريون إلى دول الخليج، وعادوا بالأموال ومعها لحى طويلة وجلابيب قصيرة، وسحنة متجهمة صلبة غريبة على المجتمع المصري المحب للمرح والفكاهة. بدأنا نسمع في المساجد عن ضرورة الابتعاد عن المسيحيين الكفار، بل وطالب البعض منهم بفرض الجزية على إخوانهم المسيحيين، تأويلا لنص قرآني كانوا يرددونه.
تكاثر المسيحيون وازدادت نسبتهم إلى نحو 6 بالمائة بعد أن كانت لا تزيد على 3 بالمائة من سكان القرية. وفي صبيحة يوم خريفي عاصف من نهاية ثمانينات القرن الماضي، استيقظنا على صراخ وهتاف وصيحات: "الله أكبر". فوجئ الجميع بكنيسة تنتصب صلبانها في مدخل القرية. وفيما كان البعض من أصحاب اللحى يحاولون الهجوم على الكنيسة، كان الأمن يحيط بالمكان ويرد المعتدين. وأصبحت الكنيسة، التي دفع أحد المسيحيين في القرية ثمن أرضها وراح يبنيها مدعيا أنها منزل، ثم رفع الصلبان عليها، أمرا واقعا. وللمرة الأولى تظهر الابتسامة على وجه غالي وأسرته وهم يصلون في كنيسة لا تبعد عن منازلهم إلا أمتارا قليلة.
لا تختلف الحكايات بين المسلمين والمسيحيين في مصر عن هذه الحكاية كثيرا، بل ثمة ما هو أعمق منها. لكن الثقافة السائدة الآن تغيرت، وأصبحت تفرز أشكالا مختلفة من التعصب والتشدد. فمصر التي رفض أبناؤها المسيحيون والمسلمون ما تم قبوله في بلاد أخرى، كلبنان والسودان واليمن والعراق الآن، من محاصصة طائفية وتقسيمات فئوية، وراحوا يبنون الدولة معا على أساس المواطنة، وامتزجت دماؤهم في مقاومة الاحتلال الإنجليزي الذي بدأ عام 1882 وانتهى 1950، وفي كل الحروب الأخرى، تعيش حالة من الفرز الطائفي، تدفع المسيحي إلى الاحتماء بكنيسته، والمسلم إلى التعصب لدينه. خلقت هذه الثقافة القائمة على أشكال مختلفة من الأصولية الدينية، مقاومة شديدة لفكرة المواطنة والمساواة، وهيمن الخطاب السلفي، وهو خطاب ظلامي إقصائي لا يعترف بالآخر ولا بالأقليات، وهو ما نتج عنه رد فعل لدى الطرف المسيحي تمثل في العزلة، وفي تصاعد خطاب التطرف لدى بعضهم.
يقول الأنبا موسى أسقف الشباب بالكنيسة المصرية لـ"نيوزويك": "الشباب المسيحي يلجأ إلى الكنيسة لأن كل مؤسسات الدولة في مصر أغلقت في وجهه. لو وقف بعض الشباب المسيحي محتجين أمام مجلس الشعب لأوسعتهم قوات الأمن ضربا، ولتم اعتقالهم".
مازال شعار "الدين لله والوطن للجميع" الذي قامت عليه فكرة الوطنية المصرية، هو شعار المسلمين جميعا، لكن هناك قوى منظمة تسعى فكريا إلى إضعاف فكرة الدولة المدنية، عن طريق عدم احترام القوانين، ونشر ثقافة الكراهية في مصر.
في نجع حمادي، بمحافظة قنا التي تبعد نحو 700 كيلومتر جنوب القاهرة، وقبل الحادثة الأخيرة التي راح ضحيتها ستة مسيحيين وشرطي مسلم وجرح تسعة أشخاص آخرين مساء السابع من يناير، كان الأنبا كيرلس أسقف نجع حمادي يقف أمام المطرانية، مر أمامه شخص يعرفه يعمل مهندسا، سأله ابنه ـ وهو يشير إلى الأنبا كيرلس ـ: "من هذا يا أبي؟"، فجذبه من يده بقوة وهو يصرخ: "أسرع، إنه الشيطان".
بعدها بأيام وقعت المجزرة التي قام بها ثلاثة شبان، يقودهم شخص معروف باحترافه الجريمة، بزعم الثأر لطفلته التي ماتت أثناء ولادتها على أيدي أطباء مسيحيين، والانتقام لاغتصاب فتاة مسلمة على يد شاب مسيحي. هذه هي الثقافة السائدة الآن في صعيد مصر» المعروف بتركيبته القبلية التي ترى أن العدوان على أي فرد من القبيلة هو عدوان على القبيلة بكاملها.
المسيحيون كانوا خارج هذه المنظومة القبلية الخاصة بالثأر، ودائما كانت علاقتهم طيبة جدا بمن حولهم. لكن يبدو أن ثمة مشكلات أخرى بدأت تظهر لدى الجانب المسيحي، حسب تصريحات صحافية لمحافظ قنا مجدي أيوب الذي يلقي باللائمة في كثير من الأحداث الطائفية في قنا على الجانب المسيحي. تقول إحدى القيادات الأمنية التي وافقت على الحديث بشرط عدم ذكر اسمها لحساسية الموضوع: "ثمة قيادات دينية مسيحية تحرض الشباب المسيحي على الاعتداء على الأمن وعلى بعض المسلمين. وهو ما يشعل فتيل المواجهات دائما".
دفعت الأحداث الأخيرة في نجع حمادي بعض الأصوات المسيحية أيضا إلى المناداة بتدويل القضية، وأرسل مستشار بابا الكنيسة المصرية نجيب جبرائيل إلى الأمم المتحدة، مذكرة طالب فيها بتكليف المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لويس أوكامبو دراسة إصدار مذكرات توقيف بحق كل من محافظ قنا مجدي أيوب ـ وهو أول مسيحي يتولى منصب محافظ ــ ومدير الأمن بالمحافظة لمسؤوليتهما عن أحداث نجع حمادي.
يقول رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان ومستشار بابا الكنيسة في مصر نجيب جبرائيل لـ"نيوزويك": "نعيش مواطنة منقوصة. سلكنا كل القنوات الشرعية في مصر ولم نحصل على حقوقنا، فكان لا بد من أن نتجه إلى المجتمع الدولي والمنظمات الأممية كي تنصفنا. الحادث الأخير طائفي وليس جنائيا كما يحاولون تصويره".
وينعي جبرائيل تهميش الأقباط في مناحي الحياة المختلفة في مصر، لكنه يشير إلى أن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين على المستويين الشعبي والنخبوي جيدة وتسير بشكل عادي. ويضيف: "المشكلة دائما في المناطق الملتهبة في جنوب مصر".
لا شك أن الجهات السلفية ذات التوجه الوهابي، نجحت في التغلغل في المجتمع المصري من خلال التركيز على الملابس والمظاهر الدينية المختلفة، الأمر الذي أدى كذلك إلى ظهور بعض مظاهر التمييز في التعاملات اليومية تجاه المواطنين الأقباط في قطاعات الدولة المختلفة.
لكن النظام في مصر يرى أن ثمة مبالغة في القول بتهميش الأقباط. فقد جاء على لسان وزيرة القوى العاملة والهجرة عائشة عبدالهادي أن الأقباط الذين يمثلون نحو 10 بالمائة من السكان ـ أي نحو ثمانية ملايين شخص ـ يمتلكون ثلث الثروة القومية، وكبريات الشركات المصرية.
وما لم تقله الوزيرة إن مشاكل البطالة والفقر وانسداد الأفق السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، تضرب أكثر من 70 بالمائة من المصريين ـ مسلمين ومسيحيين ـ حسب الإحصاءات الرسمية والدولية، وتدفعهم إلى انتهاج سلوكيات غريبة على قيمهم وطبائعهم المعروفة، وهو ما ينبغي الالتفات إليه وإصلاحه.
من جانبه يؤكد شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي، الذي يمثل أعلى سلطة دينية في مصر، أثناء تقديمه العزاء لأهالي ضحايا حادثة نجع حمادي، أن المسلمين والأقباط يجمعهم وطن واحد، وتربطهم روابط محبة قوية، "وأن من حق الأقباط علينا أن نحتضنهم ونتيح لهم كل الفرص كي يحصلوا على حقوقهم في المواطنة".
لا تفارقني صورة غالي النجار المسيحي المرح. فقد لازم أبي في مرضه الأخير، وكان يسهر عليه وجعل نفسه متكأ له حتى انتقل إلى جوار ربه. حمل غالي الشيشة، رفيقتهما في رحلة السمر، وخرج من البيت حزينا منكسرا، لكنه عاد مرة أخرى ومعه ابن شاب وفي فمه سيجارة أمريكية، راح ينفث دخانها إلى أعلى بإعجاب، ثم خرج ولم يعد.
مازلت أردد مع الداعية الشيخ أحمد حسن الباقوري أول وزير أوقاف في مصر بعد ثورة يوليو: "أنا مسلم ولكنني أحب إخوتي المسيحيين". وأتمنى أن يعود غالي المسيحي إلى مرحه وسابق عهده، فكل المصريين أقباط ـ قبطي كلمة يونانية تعني المصري ـ قبل المسيحية وبعد الإسلام.
في مطلع سبعينات القرن الماضي، كانت أسرتي تسكن منزلا في قرية صغيرة تطل على النيل في إحدى الضواحي الريفية للقاهرة. معظم أهل القرية ينتمون إلى الشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة، ويمتهنون حرفا بسيطة، أو وظائف متدنية في مصنع الزجاج القريب، أو مصانع المياه الغازية والنسيج البعيدة.
غالبية السكان يعتنقون الإسلام، ويغلب عليهم الجانب الصوفي الروحاني المتسامح، وينتظم الكثيرون منهم في حلقات الذكر الخاصة بالطرق الصوفية التي كانت تنتشر بكل أطيافها.
وثمة أقلية مسيحية تجمعت بيوتها اختياريا في حارة ضيقة، أطلق عليها اسم "حارة النصارى". ويعمل أفرادها في صناعة الفؤوس الخشبية التي كان فلاحو القرية ينقرون الأرض بها، وفي ترميم النوارج التي كانت تعلق أذرعتها في رقبة الحمير والبقر لتقليب التربة قبل بذر البذور، وكذلك في تصليح الأبواب والشرفات.
انكسرت إحدى الشرفات في منزلنا، فاستدعى أبي غالي، النجار المسيحي المرح، لإصلاحها. أتم غالي مهمته وجلس يتسامر مع أفراد الأسرة. والدي، الذي كان ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين في مطلع شبابه، أي في العقد الثاني من نشأتها عام 1928، ثم ترك الجماعة احتجاجا على تناقض سلوك أعضائها مع القيم التي كانوا يعظون الناس بها، وخاصة الاتجاه نحو العنف، لم يكن لديه ما يشغله بعد العودة من العمل إلا السمر مع الأصدقاء وتدخين الشيشة المصرية المعروفة بـ"الجوزة" والاستماع إلى صوت أم كلثوم الساحر. نظر غالي إلى الشيشة بامتعاض وخرج من دون أن ينبس بكلمة، ثم عاد بشيشة أخرى أنيقة ومتدفقة. رص الأحجار بالتبغ ووضع النار فوقها وقدمها إلى والدي. سعل أبي بشدة من دفق الدخان، وهز رأسه ولمعت عيناه وهو يتبادل الجوزة من فم إلى فم مع غالي، الذي كان يسحب الدخان ويطلقه من أنفه وفمه في تشكيلات ظريفة جدا. وراح الرجلان لأكثر من ربع قرن، يلتقيان بشكل شبه يومي ويتسامران في كل الأمور. وطالت صداقتهما أبناء الأسرتين وأسرا مسيحية أخرى. لم يكن الدين مطروحا بأي صورة من الصور، بل كان أحدهما يداعب الآخر أحيانا بأن يتبادلا الدين، فيعتنق أبي المسلم المسيحية ويعتنق غالي الإسلام، ثم يسحبان أنفاسا عميقة من "الجوزة" التي كان غالي متخصصا في إعدادها. غالي كان يغيب كل يوم أحد للذهاب إلى الكنيسة التي كانت تبعد أكثر من 40 كيلومترا عن القرية، ويعود في اليوم التالي ليحكي كل ما دار في صلاته. يظهر في صوته أسى وهو يتحدث عن بُعد الكنيسة، والمشقة التي يعانيها في رحلته. سألته مرة: لماذا لا تبنون لكم كنيسة في القرية؟ فنظر بحزن وتنهد وهو يقول: "ليتنا نستطيع ذلك. هذا أحد أحلامنا".
ومرت السنون وتدفق ماء كثير في النهر، وسافر المصريون إلى دول الخليج، وعادوا بالأموال ومعها لحى طويلة وجلابيب قصيرة، وسحنة متجهمة صلبة غريبة على المجتمع المصري المحب للمرح والفكاهة. بدأنا نسمع في المساجد عن ضرورة الابتعاد عن المسيحيين الكفار، بل وطالب البعض منهم بفرض الجزية على إخوانهم المسيحيين، تأويلا لنص قرآني كانوا يرددونه.
تكاثر المسيحيون وازدادت نسبتهم إلى نحو 6 بالمائة بعد أن كانت لا تزيد على 3 بالمائة من سكان القرية. وفي صبيحة يوم خريفي عاصف من نهاية ثمانينات القرن الماضي، استيقظنا على صراخ وهتاف وصيحات: "الله أكبر". فوجئ الجميع بكنيسة تنتصب صلبانها في مدخل القرية. وفيما كان البعض من أصحاب اللحى يحاولون الهجوم على الكنيسة، كان الأمن يحيط بالمكان ويرد المعتدين. وأصبحت الكنيسة، التي دفع أحد المسيحيين في القرية ثمن أرضها وراح يبنيها مدعيا أنها منزل، ثم رفع الصلبان عليها، أمرا واقعا. وللمرة الأولى تظهر الابتسامة على وجه غالي وأسرته وهم يصلون في كنيسة لا تبعد عن منازلهم إلا أمتارا قليلة.
لا تختلف الحكايات بين المسلمين والمسيحيين في مصر عن هذه الحكاية كثيرا، بل ثمة ما هو أعمق منها. لكن الثقافة السائدة الآن تغيرت، وأصبحت تفرز أشكالا مختلفة من التعصب والتشدد. فمصر التي رفض أبناؤها المسيحيون والمسلمون ما تم قبوله في بلاد أخرى، كلبنان والسودان واليمن والعراق الآن، من محاصصة طائفية وتقسيمات فئوية، وراحوا يبنون الدولة معا على أساس المواطنة، وامتزجت دماؤهم في مقاومة الاحتلال الإنجليزي الذي بدأ عام 1882 وانتهى 1950، وفي كل الحروب الأخرى، تعيش حالة من الفرز الطائفي، تدفع المسيحي إلى الاحتماء بكنيسته، والمسلم إلى التعصب لدينه. خلقت هذه الثقافة القائمة على أشكال مختلفة من الأصولية الدينية، مقاومة شديدة لفكرة المواطنة والمساواة، وهيمن الخطاب السلفي، وهو خطاب ظلامي إقصائي لا يعترف بالآخر ولا بالأقليات، وهو ما نتج عنه رد فعل لدى الطرف المسيحي تمثل في العزلة، وفي تصاعد خطاب التطرف لدى بعضهم.
يقول الأنبا موسى أسقف الشباب بالكنيسة المصرية لـ"نيوزويك": "الشباب المسيحي يلجأ إلى الكنيسة لأن كل مؤسسات الدولة في مصر أغلقت في وجهه. لو وقف بعض الشباب المسيحي محتجين أمام مجلس الشعب لأوسعتهم قوات الأمن ضربا، ولتم اعتقالهم".
مازال شعار "الدين لله والوطن للجميع" الذي قامت عليه فكرة الوطنية المصرية، هو شعار المسلمين جميعا، لكن هناك قوى منظمة تسعى فكريا إلى إضعاف فكرة الدولة المدنية، عن طريق عدم احترام القوانين، ونشر ثقافة الكراهية في مصر.
في نجع حمادي، بمحافظة قنا التي تبعد نحو 700 كيلومتر جنوب القاهرة، وقبل الحادثة الأخيرة التي راح ضحيتها ستة مسيحيين وشرطي مسلم وجرح تسعة أشخاص آخرين مساء السابع من يناير، كان الأنبا كيرلس أسقف نجع حمادي يقف أمام المطرانية، مر أمامه شخص يعرفه يعمل مهندسا، سأله ابنه ـ وهو يشير إلى الأنبا كيرلس ـ: "من هذا يا أبي؟"، فجذبه من يده بقوة وهو يصرخ: "أسرع، إنه الشيطان".
بعدها بأيام وقعت المجزرة التي قام بها ثلاثة شبان، يقودهم شخص معروف باحترافه الجريمة، بزعم الثأر لطفلته التي ماتت أثناء ولادتها على أيدي أطباء مسيحيين، والانتقام لاغتصاب فتاة مسلمة على يد شاب مسيحي. هذه هي الثقافة السائدة الآن في صعيد مصر» المعروف بتركيبته القبلية التي ترى أن العدوان على أي فرد من القبيلة هو عدوان على القبيلة بكاملها.
المسيحيون كانوا خارج هذه المنظومة القبلية الخاصة بالثأر، ودائما كانت علاقتهم طيبة جدا بمن حولهم. لكن يبدو أن ثمة مشكلات أخرى بدأت تظهر لدى الجانب المسيحي، حسب تصريحات صحافية لمحافظ قنا مجدي أيوب الذي يلقي باللائمة في كثير من الأحداث الطائفية في قنا على الجانب المسيحي. تقول إحدى القيادات الأمنية التي وافقت على الحديث بشرط عدم ذكر اسمها لحساسية الموضوع: "ثمة قيادات دينية مسيحية تحرض الشباب المسيحي على الاعتداء على الأمن وعلى بعض المسلمين. وهو ما يشعل فتيل المواجهات دائما".
دفعت الأحداث الأخيرة في نجع حمادي بعض الأصوات المسيحية أيضا إلى المناداة بتدويل القضية، وأرسل مستشار بابا الكنيسة المصرية نجيب جبرائيل إلى الأمم المتحدة، مذكرة طالب فيها بتكليف المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لويس أوكامبو دراسة إصدار مذكرات توقيف بحق كل من محافظ قنا مجدي أيوب ـ وهو أول مسيحي يتولى منصب محافظ ــ ومدير الأمن بالمحافظة لمسؤوليتهما عن أحداث نجع حمادي.
يقول رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان ومستشار بابا الكنيسة في مصر نجيب جبرائيل لـ"نيوزويك": "نعيش مواطنة منقوصة. سلكنا كل القنوات الشرعية في مصر ولم نحصل على حقوقنا، فكان لا بد من أن نتجه إلى المجتمع الدولي والمنظمات الأممية كي تنصفنا. الحادث الأخير طائفي وليس جنائيا كما يحاولون تصويره".
وينعي جبرائيل تهميش الأقباط في مناحي الحياة المختلفة في مصر، لكنه يشير إلى أن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين على المستويين الشعبي والنخبوي جيدة وتسير بشكل عادي. ويضيف: "المشكلة دائما في المناطق الملتهبة في جنوب مصر".
لا شك أن الجهات السلفية ذات التوجه الوهابي، نجحت في التغلغل في المجتمع المصري من خلال التركيز على الملابس والمظاهر الدينية المختلفة، الأمر الذي أدى كذلك إلى ظهور بعض مظاهر التمييز في التعاملات اليومية تجاه المواطنين الأقباط في قطاعات الدولة المختلفة.
لكن النظام في مصر يرى أن ثمة مبالغة في القول بتهميش الأقباط. فقد جاء على لسان وزيرة القوى العاملة والهجرة عائشة عبدالهادي أن الأقباط الذين يمثلون نحو 10 بالمائة من السكان ـ أي نحو ثمانية ملايين شخص ـ يمتلكون ثلث الثروة القومية، وكبريات الشركات المصرية.
وما لم تقله الوزيرة إن مشاكل البطالة والفقر وانسداد الأفق السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، تضرب أكثر من 70 بالمائة من المصريين ـ مسلمين ومسيحيين ـ حسب الإحصاءات الرسمية والدولية، وتدفعهم إلى انتهاج سلوكيات غريبة على قيمهم وطبائعهم المعروفة، وهو ما ينبغي الالتفات إليه وإصلاحه.
من جانبه يؤكد شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي، الذي يمثل أعلى سلطة دينية في مصر، أثناء تقديمه العزاء لأهالي ضحايا حادثة نجع حمادي، أن المسلمين والأقباط يجمعهم وطن واحد، وتربطهم روابط محبة قوية، "وأن من حق الأقباط علينا أن نحتضنهم ونتيح لهم كل الفرص كي يحصلوا على حقوقهم في المواطنة".
لا تفارقني صورة غالي النجار المسيحي المرح. فقد لازم أبي في مرضه الأخير، وكان يسهر عليه وجعل نفسه متكأ له حتى انتقل إلى جوار ربه. حمل غالي الشيشة، رفيقتهما في رحلة السمر، وخرج من البيت حزينا منكسرا، لكنه عاد مرة أخرى ومعه ابن شاب وفي فمه سيجارة أمريكية، راح ينفث دخانها إلى أعلى بإعجاب، ثم خرج ولم يعد.
مازلت أردد مع الداعية الشيخ أحمد حسن الباقوري أول وزير أوقاف في مصر بعد ثورة يوليو: "أنا مسلم ولكنني أحب إخوتي المسيحيين". وأتمنى أن يعود غالي المسيحي إلى مرحه وسابق عهده، فكل المصريين أقباط ـ قبطي كلمة يونانية تعني المصري ـ قبل المسيحية وبعد الإسلام.