المقابلة مع السيد محمد حيدره مسدوس في صحيفة النداء والتي نشرت على ثلاثة أجزاء خلال الاسابيع الماضية أعيد نشرها كاملة كما نشرت في الصحيفة نظراً لاهمية ما قاله القيادي الإشتراكي الجنوبي المخضرم سيد مسدوس.
_______________________________________
في البدء كان تيار «إصلاح مسار الوحده». لكن محمد حيدره مسدوس لم يرد في هذا الحوار الذي تنشره «النداء» أن يتحدث كثيراً عن معارك الماضي التي خاضها داخل الحزب الاشتراكي لإقناع الأغلبية في هيئاته بضرورة التمترس في الجنوب من أجل القضية الجنوبية والوحدة معاً. الماضي لا يحضر في هذا الحوار إلا متى أدى وظيفة كاشفة للحاضر والمستقبل. وعبر ساعات هذا الحوار اعتمد أحد أبرز مؤسسي تيار إصلاح مسار الوحدة نبرة هادئة حتى وهو يخوض في مسائل الحاضر المحمولة بالصخب والهياج، وأسئلة المستقبل المسوَّرة بالنار، وتجارب الماضي المغمسة بالأحزان والمرارات.
كان هادئاً، تماماً كما هو في اللحظة الراهنة، اللحظة التي توارى فيها عن سبق إصرار -كما قال لي- عن واجهة المشهد الجنوبي بسبب قلبه الذي يقاسي التضخم، ولكن أيضاً بسبب عقله الذي يقدِّر أن الأيام الجنوبية المقبلة تحتاج إلى دوره في ظلال المشهد بأكثر مما تتطلب حضوره في أضواء الواجهة حيث يتسابق كثيرون على حجز موقع لهم في الصدر! والحاصل أن محمد حيدرة مسدوس، الرجل الذي اختار أن يتوارى، حاضرٌ، كما يبرهن في هذا الحوار، بأكثر مما يتصوره أشد الممسوسين به، داخل الحزب الاشتراكي أو في السلطة أو في الحراك. وبالنظر إلى حساسية موقعه الريادي في الحراك، فقد تقرر أن يتم هذا الحوار طبق اتفاق مبادئ بيننا.
يقضي المبدأ الأول بأن نتجنب الإشارة إلى الخلافات بينه وبين رفاقه في الحزب، الأحياء قبل الأموات، حول قرارات الأغلبية الحزبية بشأن الانتخابات ومصير الوحدة بعد حرب 1994.
وقد تم الالتزام من قبلي بهذا المبدأ إلا متى وجبت الإشارة إلى مواقف سابقة تعين على قراءة تطورات راهنة.
المبدأ الثاني كان بشأن رأيه في التطورات المتسارعة في الجنوب والتقلبات الدرامية في المواقف والاصطفافات جنوباً وشمالاً. وكان الاتفاق على أن يتم الحوار بالمسجل كي يكون نابضاً بالحياة على أن يتم نشره بعد حذف كل ما قد يتسبب في جرح أشخاص، أياً تكن مواقعهم ومواقفهم.
والحق انني لم أجد وأنا أحرِّر هذه المادة ما يستوجب الحذف، فقد بدا مؤسس «تيار اصلاح مسار الوحدة» يقظاً ومتحوطاً عبر مسار هذا الحوار. وقد سد -كما أزعم هنا- كل منفذ من شأنه أن يحرف مسار علاقته بالصحيفة حتى لا يضطر لتأسيس تيار إصلاح مسار الصحافة المستقلة.
وقضى المبدأ الثالث بأن يطلع على نسخة من الجزء الأول من هذا الحوار قبل نشره، على أن لا يجري أي تعديلات أو تصويبات إلا بالتفاهم معي، ومتى قدِّر أن في ما حُرِّر تجاوزاً للمبدأين الأولين. واعترف هنا أنني خرقت هذا المبدأ، إذ أن مشاغل عدة حالت دون إرسال نسخة من الحوار في التوقيت المتفق عليه (مساء الخميس أو نهار الجمعة.
وفي هذا الحوار يعرض محمد حيدرة مسدوس مواقفه من التطورات التي حدثت خلال العامين الماضيين. ومن موقعه الأصيل داخل الحياة السياسية، وبخاصة في قلب الحراك الجنوبي -رغم وجوده في العاصمة -يقدِّم للقارئ زوايا جديدة للنظر في أعماق الحراك الجنوبي ومقدماته ومساره الذي بدوره قد يحتاج إلى تيار إصلاح -ليس علنياً بالضرورة- يحول دون انزلاق مكوناته نحو العنف والإقصاء والانعزالية.
حـوار: سامي غالب
لجنة الحوار الوطني أطلقت مشروعاً، ودعت مكونات الحراك والقوى السياسية في الداخل والخارج إلى الحوار. هل يمكن أن يستجاب لها؟
- لابد لأي حوار أن تكون له موجبات موضوعية، هذه الموجبات هي أصلاً موجودة، لكن الإخوة في المشترك ولجنة الحوار الوطني ابتعدوا كثيراً عن هذه الموجبات. ولأنهم ابتعدوا عنها فأعتقد ألا تكون هناك استجابة من المعارضة في الخارج. القضية الجنوبية لها طرفان: الطرف الجنوبي والسلطة. الجنوبيون في 1994، كانوا طرفاً في الأزمة، وطرفاً في الحرب، ومن البديهي أن يكونوا الآن طرفاً في الحوار، وطرفاً في الحل، سواءً كان الطرف المقابل لهم هو السلطة أو المعارضة. هذه القضية (الجنوبية) تتطلب بالفعل حواراً، الوثيقة للأسف ذهبت بعيداً عنها. نفس الشيء بالنسبة لمشكلة صعدة، الوثيقة لم تتناولها بشيء من الحلول. كنت أفضل أن يوجه الإخوة في المشترك ولجنة الحوار دعوة للجنوبيين، ودعوة للحوثيين، كلٍّ على حدة. يبحثوا مع الجنوبيين القضية الجنوبية وكيفية حلها، ويبحثوا مع الحوثيين مشكلة صعدة وكيفية حلها، وبعد أن يتفقوا على حل القضية الجنوبية مع الجنوبيين، ويتفقوا مع الحوثيين على حل لمشكلة صعدة، كان بالإمكان إيجاد وثيقة يتحقق إجماع عليها، وتتشكل جبهة وطنية تضم هذه الأطراف.
على حد علمي فإن ترتيبات تجري حالياً مع شخصيات لها وزن في الخارج مثل علي ناصر محمد وحيدر العطاس لبحث هذا الموضوع.
- إن كانت الدعوة للجنوبيين كجنوبيين لبحث القضية الجنوبية والاتفاق على حلها، هذا ممكن. لكن الدعوة إلى الحوار أو إلى مؤتمر وطني على أساس الوثيقة التي اطلعنا عليها فأنا لا أعتقد أنها ستكون دعوة مجدية، ولا أعتقد أنها ستلقى استجابة.
علاوة على هذا النقد للآليات، ما هي ملاحظاتك الأخرى على هذه الوثيقة؟
- المشاريع تكون في العادة خلاصة للحوار مع أطراف المشكلة، لا أن يصممها طرف واحد، وهو لا يدرك كيف يفكر الطرف الآخر حيالها. في تقديري الشخصي أنها لن تكون مجدية، وأقترح على أصحابها تجاوز هذه الوثيقة، وأن يدعوا الجنوبيين للحوار حول كيفية حل القضية الجنوبية.
أي أنك تعتقد أن هذا المشروع لا يصلح لأن يكون ركيزة، أو منطلقاً، لحوار مع مختلف الأطراف، وبخاصة الحراك الجنوبي.
- نعم. المفروض تكون الدعوة للحوار على أساس مبادئ، وتترك التفاصيل للحوار. الوثيقة جاءت بكل التفاصيل بصورة غير واضحة، ولا تؤدي الغرض، وكان من الأفضل للإخوة الذين دعوا للحوار وفق هذه الوثيقة، أن يذهبوا للرئيس ويقنعوه بالمشكلات.
هم يقولون إنهم دائماً في لقاءاتهم مع الرئيس يطرحون عليه هذه المشكلات وأهمية الاعتراف بها كمدخل لمعالجتها، لكن دون جدوى. حتى إن أحد هذه القيادات قال لي إنهم يائسون تماماً من الرئيس، وما من بديل سوى الذهاب للتفاهم مع الحراك والحوثيين.
- إنْ كان هذا صحيحاً فلماذا لا يقولون للرأي العام المحلي والخارجي بأنهم قد طرحوا المشكلات على السلطة، وطلبوا منها الاعتراف بها وإيجاد حلول لها والسلطة رفضت. إذا يريدون معالجة المشكلات بشكل عملي وجدي ممكن يقومون هم بوظيفة السلطة.
تقصد أي وظيفة، هل تقصد أن يذهبوا مباشرة للحوار مع الأطراف الأخرى؟
- التعامل مع القضية الجنوبية والتعامل مع مشكلة صعدة. يعقدون مؤتمراً صحفياً، ويعلنون اعترافهم بالقضية الجنوبية، ويدعون الجنوبيين للحوار من أجل إيجاد حل لها، والأمر نفسه بالنسبة للحوثيين. بعد أن يتفقوا مع الجنوبيين حول كيفية حل القضية الجنوبية، وبعد أن يتفقوا مع الحوثيين حول كيفية حل مشكلة صعدة، يمكن هنا أن تتشكل جبهة موحدة ويفرضوا الحل الذي يتفقون عليه عبر عصيان مدني.
أيمكن في الوقت الراهن أن ينفتح الحراك الجنوبي على أحزاب المشترك؟ تعلم أنه في الفترة الماضية وجدت أزمة ثقة ومصداقية. قياديون في المشترك يشيرون إلى أن الحراك يتعامل مع أي بيان للمشترك يؤيد مطالبهم باعتباره محاولة للالتفاف على الحراك أو اختراقه.
- هذه موجودة فعلاً. وتجاوز أزمة الثقة هو في يد اللقاء المشترك والمعارضة. ويمكن للمعارضة أن تزيل أسباب هذه الأزمة، وتثبت للآخرين مصداقيتها. اللقاء المشترك، والمعارضة عموماً، لم يكن موقفه من القضية الجنوبية إيجابياً منذ البداية، تم اعتماد أسلوب التجاهل تجاه القضية الجنوبية، وهذا أعطى انطباعاً لدى الشعب في الجنوب بأن الكل تخلى عن قضيته. معالجة أزمة الثقة الآن في يد المعارضة (المشترك) بأن تبرهن للجنوبيين أنها صادقة ومستعدة للعمل من أجل معالجتها.
قيادات وناشطون في الحراك يكررون دوماً بأن الحراك يخرج في مسيرات واعتصامات في المحافظات الجنوبية، ويسقط جراء ذلك شهداء وجرحى ويُقتل العشرات، فيما الشارع في العاصمة ومدن أخرى في الشمال هادئ، وكأن ما يجري في الجنوب لا يعنيه، وهم يحملون المشترك مسؤولية هذا التراخي. ويحضرني الآن ما قاله لـــ"النداء" ناشط في الحراك قبل نحو عام ونصف العام، رأى أن المشترك غير مطالب بالمشاركة في فعاليات الحراك في الجنوب بقدر ما هو مطالب بإثبات صدقيته في معارضة السلطة في الشمال، وتحريك مسيرات واحتجاجات ضد المظالم التي يكابدها أبناء الشمال، وسيتم اللقاء بين الحراك والمشترك تلقائياً. ما يعني أن قيادات الحراك يريدون من المشترك توكيد مصداقيته أولاً قبل إطلاق أية دعوات أو مبادرات.
- هذا كلام صحيح من الناحية النظرية، لكن من الناحية العملية في صعوبة. أنا شخصياً لا أعتقد أن المشترك والمعارضة ليست لديهما رغبة في تحريك الشارع الشمالي. أنا مقتنع أن لديهم رغبة، لكن يشعرون بصعوبة تنفيذ ذلك.
تقصد أن المسألة مسألة قدرات؟
- لا. الصعوبة قد لا تكون موجودة في أذهان الناس، أو أنهم لا يريدون لهذه الصعوبة أن تظهر، لكنها موجودة في الواقع. أذكر أنني ناقشت الشهيد جار الله عمر حولها قبل استشهاده بعدة سنوات، تقريباً في أواخر 1997، بعد الانتخابات النيابية. جرى ذلك في بيتي، وبحضور عبدالواحد المرادي. كنا مختلفين حول موقف الحزب من القضية الجنوبية، وبادر المرادي واقترح أن نجلس، جار الله عمر وأنا، لنتفق أولاً، وبعد أن نتفق يمكن أن نوسع نطاق النقاش ليشمل أعضاء المكتب السياسي. جاء إلى بيتي (السابق في منطقة حدة) جار الله عمر وعبدالواحد المرادي. قلت لجار الله عمر خلونا نقرأ الواقع بشكل سليم إذا نريد الحفاظ على وحدة الحزب، وكي يبقى قائداً في الجنوب. أنا متأكد أن الواقع في الشمال أفضل، ولو نسبياً، عما كان عليه قبل الوحدة. سألني: من أي ناحية أفضل؟ قلت من الناحية السياسية، الناس كانوا مقموعين ولا يستطيعون النقد، ولا يوجد هامش لحرية الصحافة أو حرية العمل الحزبي، وكان الدستور الشمالي يقول من تحزب خان، هذا قبل الوحدة، أما الآن فهذا ليس موجوداً، ما يعني أن الوضع من الناحية السياسية أفضل مما كان عليه قبل الوحدة. صحيح أن الديمقراطية شكلية، لكن بالمقارنة مع ما كان قبل إعلان الوحدة، الوضع أفضل نسبياً. وكذلك الحال من الناحية السيكولوجية، ومن الناحية الاقتصادية أيضاً، فالمظلومون في الشمال تمكنوا من الحركة، سعياً وراء الرزق، في الجنوب، وتحسن وضعهم. لكن في الجنوب الوضع أسوأ من كل النواحي عما كان عليه قبل الوحدة، إذن، كيف أنا في الجنوب أستطيع إقناع السكان بقبول الأسوأ، وكيف أنت في الشمال تستطيع إقناع السكان برفض الأفضل؟ يوجد اختلال في الواقع، وواجبنا أن نستوعبه في السياسة. جار الله عمر قال: ألا يوجد قاسم مشترك في نظرك؟ قلت له هناك قاسم مشترك وهو "وثيقة العهد والاتفاق". رد: ومن قال إننا تخلينا عنها؟ أوضحت: المشاركة في الانتخابات، فعندما تشاركون في الانتخابات، فهذا يعني عملياً تخليكم عن الوثيقة.
لأن الوثيقة في هذه الحالة أعلى من الدستور؟
- نعم. كان ينبغي على المعارضة كلها أن تشترط للمشاركة في الانتخابات تنفيذ وثيقة العهد والاتفاق التي وقع عليها الرئيس علي عبدالله صالح، وأجمعت عليها القوى السياسية كلها.
لنعد إلى النقطة الأساسية، أنت ترى أن المعارضة لديها الرغبة في تحريك الشارع، لكن إمكانية تجسيد هذه الرغبة غير ممكنة، لأن الوضع في الشمال تحسن عما كان عليه قبل الوحدة، وبكلمة أخرى، يصعب تحريك الشارع في المحافظات الشمالية في قضية لها علاقة بالوحدة؟
- بالضبط. لن تكون الاستجابة في الشمال كما هي في الجنوب. وهذه المسألة ينبغي على السياسيين أخذها في الاعتبار، لا أن يأتوا لــــ"يكعفوا" الناس، إما أن يكعفوا الجنوب لما هو في صالح الشمال أو العكس، وهذا ما يحصل الآن.
ماذا بوسع المشترك، إذن، أن يفعل حيال القضية الجنوبية؟ الشارع في الجنوب لا يتحرك إلا بناء على أجندة الحراك بعد أن انحسر دور المشترك تدريجياً، وبات الآن كما كتبت يوماً مجرد معلق سياسي. وفي الشمال يمكن للمشترك أن يحرك الشارع نسبياً، لكن ليس في قضية ذات صلة بالوحدة.
- المطلوب ليس إعداد وثيقة. هذه الوثيقة تعكس رؤيتهم هم (المشترك). المشترك حتى الآن لم يقرر هويته ولا وجوده في ما يخص القضية الجنوبية: هل هو طرف مصطف مع الحراك أم طرف مصطف مع السلطة، ليس واضحاً أين موقعهم. والحال كذلك في ما يخص مشكلة صعدة.
تقصد أن على المشترك أن يقرر موقعه حيال هاتين الأزمتين قبل أن يبادر لدعوة هذا الطرف أو ذاك للحوار؟
- بالضبط.
لعلك لاحظت غياب التوازن في رؤية المشترك من حيث الأهمية. فهي استغرقت في التاريخ والتشخيص، وتقشفت في ما يخص الآليات. ومع ذلك، في ما يخص القضية الجنوبية، أفسحت الوثيقة مساحة كبيرة لها، وقد لمست أن ما ورد فيها قريب مما كان ينبه إليه تيار إصلاح مسار الوحدة منذ أكثر من عقد، وحتى إن هذا القرب ظاهر في تصريحات وأحاديث قيادات المشترك؟.
- باسماً - هي المسائل كلها لها علاقة بالكيمياء حتى في السياسة. عندما تطرأ ظروف معينة تتطلب شيئاً معيناً، وهو تركيب كيماوي صحيح، يضيع الوقت وتفوت الفرصة، يصبح الأمر عبثياً. أريد هنا أن أعلق على تشخيص الأزمة الوارد في الوثيقة. الوثيقة حصرت المشكلة في رأس شخص (قاصداً الرئيس). ولو كانت المسألة في أشخاص لكانت قد حُلت في الماضي. في الشمال كان السلال أول رئيس، ثم جاء الإرياني، فالحمدي، فالغشمي، وأخيراً علي عبدالله صالح. لا يعقل أن يكون هؤلاء جميعاً شياطين. لو كانت المشكلة تكمن في أشخاص كانت قد حلت خلال هذا التبدل الذي حصل في الشمال. الأمر نفسه في الجنوب، جاء قحطان، ثم سالمين، فعبدالفتاح، فعلي ناصر، فالعطاس. المشكلة ليست في الأشخاص، بل تكمن في النظام.
تقصد بنية النظام السياسي والقيم السياسية الحاكمة؟
- تكمن في النظام، والنظام يعني الدستور. مثلاً في الجنوب قبل الوحدة النظام السياسي والدستور لم يكن يسمح للسرق بأن يمارسوا السرقة، وللمرتشين بممارسة الرشوة، ولم نسمع بالسرقة والرشوة على مدى 23 عاماً حكمنا فيها الجنوب، ليس لأننا ملائكة، بل لأن النظام لا يسمح بذلك. عندما جئنا إلى صنعاء وجد جنوبيون يمارسون السرقة والرشوة أكثر من الشماليين، وكانوا قبل ذلك في الجنوب ملائكة. النظام يمكن أن يصلح قيم الناس ويمكن أن يفسدها. في الشمال توجد مناطق قبلية لا تقبل الدولة، ولديها قناعة كاملة بأن العرف القبلي أفضل من القانون، وبعض أبناء هذه المناطق مثل المشائخ لهم مصلحة في تكريس هذه القناعة، لأنهم يؤدون وظائف الدولة، مثل القضاء، ويدر عليهم ذلك مصالح وأموالاً. مناطق اليمن الأسفل فيها مجتمع غير قبلي ويريد دولة النظام والقانون. المنطقتان كلاهما في دولة واحدة محكومة بنظام مركزي محتكر بيد القبائل. وهذا الواقع المتناقض لا يمكن موضوعياً -فالقصة ليست رغبات- أن يُدار بدولة مركزية، واستمراره هو نوع من العسف. وضع من هذا النوع يتطلب نظاماً فدرالياً يجعل المناطق المتطورة تحكم نفسها وفقاً لمستواها الثقافي والاجتماعي، والمناطق الأخرى تدير نفسها، وهذا سيخلق نوعاً من المنافسة باتجاه الأفضل والتعايش. وبعد الوحدة دخل الجنوب، والجنوب لا يستطيع العيش إلا في دولة، ولأنه كذلك صبر 15 سنة (منذ 7 يوليو 1994) لأنه يشعر أن الخروج عن النظام والقانون...
تقصد أنه لم يعتد العيش خارج الدولة كما قد يحصل في بعض المناطق في الشمال؟
- نعم. هذا الواقع المتناقض يستحيل إدارته بدولة مركزية، لأن السلطة ستقسر الجميع على العيش داخل نظام واحد، بينما الواقع لا يسمح بأن يتجسد هذا النظام في كل المناطق. إذا كان هذا هو الواقع فالمفروض أن تنبني السياسة على أسسه. بسبب الأفكار الاشتراكية والقومية العربية كان القادة يعتقدون أن الواقع تابع للسياسة، وكيفما تكون السياسة يكون الواقع. وهذا فكر إرادوي ليس له صلة بالعلم. السياسة تكون وفق الواقع، ولكن باتجاه إصلاحه، وهذا ليس موجوداً.
هذا يعني أن تغيير طبيعة النظام السياسي قد يشكل مخرجاً من الأزمات؟
- نعم، ولكن من أين تبدأ؟ تبدأ من الدستور وليس من الأشخاص.
لكن الحراك الجنوبي لم يعد يقبل الصيغة الفدرالية، وسقفه فك الارتباط. لعلك تذكر كيف أن الحكم المحلي قبل عدة سنوات كان بمثابة الكفر في وعي النخبة الحاكمة، والآن ينظر إلى الفدرالية على أنها كفر. هل تتصور أن تكون الفدرالية مخرجاً في الأمد القصير؟
- المسألة أولويات. الخطوة الأولى بالنسبة للمشترك هو أن يحدد موقعه من المشكلات. إذا هم يرون أن الحراك على حق والسلطة على باطل، فهم ملزمون أخلاقياً ووطنياً بأن يكونوا مع الجنوبيين. أما إذا رأوا أن الجنوبيين على خطأ فيمكن أن يكونوا بوضوح مع السلطة. وكذلك الأمر في ما يخص مشكلة صعدة. عندما يتحقق الوضوح في موقعهم وموقفهم، يستطيعون التفاهم مع الآخرين. إذا قالوا إن الحراك الجنوبي على باطل يكون في إمكانهم التوصل إلى لغة مشتركة مع السلطة. إذا هم مقتنعون أن الجنوبيين محقون والسلطة على باطل، فإنهم عندما يعلنون موقفهم سيجدون لغة مشتركة مع الحراك. هذه الخطوة الأولى، وإذا تمت ستأتي الخطوات اللاحقة، ولكن إذا تحقق الصدق وليس عبر تكتيكات.
كما تعلم فإن لجنة الحوار الوطني وهي تصوغ رؤيتها للإنقاذ أجرت اتصالات ونقاشات مع منظمات وشخصيات، هل اتصلت بك اللجنة وتناقشت معك أو على الأقل استمعت لوجهة نظرك؟
- زارني بعض الإخوة من اللجنة وعرضوا عليَّ الفكرة. نصحتهم أن تكون الخطوة الأولي قبل إعداد الوثيقة هو اختيار لجنة من أشخاص قادرين على الحديث، وأن تطلب هذه اللجنة لقاء بالرئيس (علي عبدالله صالح)، ويقدموا أنفسهم للرئيس باعتبارهم أنداداً وليس مرؤوسين. واقترحت عليهم أن تطرح هذه اللجنة 5 قضايا على الرئيس هي: القضية الجنوبية، ومشكلة صعدة، وتنظيم القاعدة، وقضية الفساد، وأخيراً القضية الاقتصادية. هذه القضايا الخمس تهدد البلاد بالصوملة إذا لم تعالج. والسلطة أظهرت حتى الآن أنها عاجزة عن معالجتها. وعليهم أن يقولوا للرئيس: سنكون مع السلطة في حال كانت جادة في معالجة هذه القضايا. سألوني: كيف يتم طرح هذه القضايا على الرئيس؟ أجبت قائلاً: بخصوص القضية الجنوبية اطلبوا من الرئيس أن يعترف بها، بحيث يدعو الجنوبيين للحوار حول حلها. كذلك الحال في ما يخص مشكلة صعدة، بحيث يدعو الرئيس الحوثيين للحوار حول مشكلة صعدة، وهكذا. وأعتقد أنه إذا حُلت القضية الجنوبية فإن القضايا الأخرى جميعها ستُحل.
تقصد أن القضية الجنوبية هي سبب عجز السلطة عن إدارة الأزمات الأخرى جراء غياب التوازن؟
- طبعاً. سألني الإخوة من لجنة الحوار بعد أن عرضت عليهم اقتراحي: وفي حال رفض الرئيس هذا؟ قلت: قولوا له بوضوح إن الوطن لنا كلنا، ولا يمكن أن نكتفي بالتفرج وأنتم تقودونه إلى الهاوية، ونحن سنقوم بواجبنا. اخرجوا من عنده، وادعوا الصحافة والهيئات الدبلوماسية إلى مؤتمر صحفي، وأعلنوا اعترافكم بالقضية الجنوبية، ووجهوا الدعوة إلى الجنوبيين للحوار على الحل، وكذلك في ما يتعلق بصعدة. وعندما يتم الاتفاق مع الحراك والحوثيين على الحل يمكن إعلان عصيان مدني يفرض الحل على السلطة.
بماذا ردوا عليك؟
- غادروا منزلي وهم مقتنون بما طرحته، لكن الأمور سارت في اتجاه آخر.
هناك من يرى أن المشترك لم يحسم خياره بعد حيال هذه الأزمات والقضايا، ولذلك يراوح حول إطلاق مبادرات، وهناك من يعتقد أن الأمور قد خرجت عن نطاق سيطرة المشترك عليها؟
- لا أعلم كيف يفكرون. إما أنهم لا يقرؤون الواقع بشكل صحيح، وإما أنهم غير جادين. لا أعرف ماذا يدور في رؤوسهم، لكني أقرأ ما يدور في الواقع.
هذا النقاش جرى قبل إعلان وثيقة الرؤية؟
- صحيح. تم أثناء إعداد الوثيقة من قبل لجنة الحوار.
دعنا نتحدث عن مواقف الأطراف المعنية بهذه الوثيقة. تعلم أن السلطة رفضت هذه الوثيقة فور إعلانها. بالنسبة للأطراف من خارج السلطة، فإن عبدالملك الحوثي أشاد قبل أسبوع بالوثيقة وأعلن ترحيبه بالحوار، لكن الأطراف الأخرى تجاهلتها، سواء مكونات الحراك أو القيادات الموجودة في الخارج سواءً علي سالم البيض أو علي ناصر أو حيدر العطاس.
- بالنسبة للحوثي فإنه تعامل بذكاء سياسي. هو كان يخشى انضمام المشترك إلى السلطة في حربها ضده. ولذلك بادر إلى الترحيب بالوثيقة لقطع الطريق أمام رهان السلطة على استمالة المعارضة إلى صفها. الآن وبعد موافقة الحوثي، فإن المعارضة لا تستطيع تأييد السلطة.
أيمكن القول أيضاً إن مطالب الحوثي لا تتصل بصميم النظام السياسي وتركيبته بقدر ما تتعلق بشؤون ذات طابع محلي (في صعدة وغيرها)، ما يجعله منفتحاً وأقل حساسية تجاه مبادرة المعارضة؟
- مشكلة صعدة غامضة. انفجرت فجأة ودون مقدمات، ودون أن يدرك الرأي العام أسبابها وحيثياتها، وتعمقت الشكوك عندما اتخذ الرئيس العام الماضي قراراً بوقف الحرب الخامسة، وكأن وقفها أو استمرارها رهن بطرف واحد، ولكن إذا اجتهد المرء يمكن أن يستنتج أن الحوثيين قلقون وكأنهم يستشعرون خطر طمس مذهبهم وتاريخهم، هذا ما أعتقده. بالنسبة للجنوبيين فإن أي سياسي جنوبي لا يستطيع أن يتجاوز الحراك، ومن يتجاوز الحراك يحرق في الشارع. توجد أزمة ثقة بين الحراك والمعارضة، وهذه الأزمة سببها المعارضة واللقاء المشترك. صحيح أن المشترك يلاحظ أن بعض الشعارات (التي يرفعها الحراك) مزعجة لهم ومقلقة وتخيفهم، لكنهم للأسف يقرؤون هنا النتيجة، ولو قرأوا الأسباب لوجدوا أن هذه الشعارات إفراز طبيعي، وهنا ستزول مخاوفهم. على سبيل المثال لو أن الحزب الاشتراكي اليمني تبنى القضية الجنوبية منذ البداية، لكان الحراك ظهر تحت قيادته، ولن يعود ممكناً أن يبحث عن قيادة غير الحزب الاشتراكي. وإذا كان هذا حصل هل كانت ستظهر شعارات تخيف المعارضة، وهل كانت ستظهر قيادات أخرى؟ بالتأكيد لا. لنأخذ الحالة المعاكسة، لو أن الاشتراكي بعد حرب 1994 مباشرة أعلن رسمياً تخليه عن القضية الجنوبية كان سيظهر حامل سياسي لهذه القضية قبل أن يظهر الحراك، وكان الحراك الحاصل الآن سيظهر تحت قيادة هذا الحامل السياسي ولن يخرج عنه، وسيتوفر للحراك عندها قيادة موحدة وشعارات موحدة. ما يحصل الآن هو نتيجة طبيعية سببها سياسة قيادة الاشتراكي تجاه القضية الجنوبية، ولذلك انفجر الشارع الجنوبي دون أن يكون هناك حامل سياسي يقوده.
لكن الحراك يبلور حالياً صيغة قيادية؟
- بشكل حتمي سيأتي حامل سياسي للحراك يجمعه في قيادة واحدة وخطاب سياسي واحد وشعار موحد.
واضح أنه ليس بوسع أي طرف أو قيادي أن يحتكر لنفسه قيادة الحراك. لكن لنعد للمشترك، لعلك تتفق معي بأن المشترك بدا فاعلاً في السنة الأولى للحراك، وذلك عبر فروعه في المحافظات الجنوبية الشرقية، غير أن حضوره انحسر تدريجياً حتى إنه صار غائباً كلياً عما يجري كما هو ظاهر في فعاليات الحراك أمس (14 أكتوبر 2009)، هل ترى أن تفاوت الأوزان والتقديرات داخل المشترك ومحورية التجمع اليمني للإصلاح داخله، جعل المشترك أقل حساسية تجاه التطورات في الجنوب، وأنا هنا لا أقصد نقد "الإصلاح" بقدر ما أريد تحليل الأمور بموضوعية؟
- لو عدنا بالذاكرة قليلاً إلى الوراء لنلتقط اللحظة التي انفجر فيها الحراك، مقدمات الحراك معروفة منذ حرب 1994، ولكن لماذا انفجر في 2007؟ لأن المشترك وقع على وثيقة (اتفاق مبادئ حول الانتخابات)مع السلطة تعتبر أن القضية الجنوبية قضية حقوقية. هذه الوثيقة فصلت تماماً بين المشترك والجنوب، لأن الشارع الجنوبي فقد الأمل تماماً في اللقاء المشترك معه.
على ما أعتقد كان لديك حينها وجهة نظر نقدية حيال هذه الوثيقة، وبخاصة موقف الاشتراكي.
- وقتها كنت مريضاً في لندن، وعندما سمعت بخبر التوقيع على الوثيقة كتبت مقالاً وأرسلته بالفاكس إلى صحيفة "الأيام" التي نشرته. كان التوقيع خطأ، وبسببه بدأ الشارع الجنوبي يبحث عن حامل سياسي غير الاشتراكي وغير اللقاء المشترك، وهنا بدأت المشكلة، وأن يصحح المشترك الآن خطأه ليس عيباً. أبو مازن (الرئيس الفلسطيني محمود عباس) اعترف أنه طلب تأجيل التصويت على تقرير جولدستون خطأ، وأعلن أنه مستعد لتصحيح هذا الخطأ. وعلى المشترك أن يعترف بأنه أخطأ، مافيش في هذا عيب.
عندما يقول المشترك الآن في رؤيته إن القضية الجنوبية موجودة وينبغي معالجتها ويدعو السلطة إلى الاعتراف بها، فهو ضمنياً يتدارك خطأه، صحيح أنهم لم يقولوا علناً بأنهم أخطأوا لكن الاعتراف الضمني موجود.
- الوثيقة اعترفت بالقضية الجنوبية، لكن المصداقية تتحقق أكثر بالاعتراف بالخطأ. عندما يقترف طرف ما خطأً فإنه وهو يراجع مواقفه بعد مضي وقت على خطئه، ويقدم حلولاً حول القضية التي ارتكب خطأ حيالها، فإنه إذا لم يعترف أصلاً بخطئه يظل محل شك لدى الآخرين في مواقفه الجديدة. وفي ما يخص فروع المشترك، أنا متأكد أنهم جميعاً مع الحراك ولكن كلاً حسب ظروفه. في القضايا الوطنية لا توجد حزبية.
تقصد قضية "وطنية جنوبية"؟
- نعم. وهذه القضية تخص الجنوبيين في الإصلاح والاشتراكي والناصري والأحزاب الأخرى، وحتى الجنوبيين في المؤتمر. وعلى الرئيس ألا يصدق أن الجنوبيين الذين في السلطة معه، هم معه علشان الراتب والوظيفة، لكن لهم قناعتهم الحقيقية، وأنا متأكد من هذا الكلام.
لكن بعض هؤلاء الذين في السلطة وتقول إنهم مع الحراك، لا يخفون حماسهم في الدفاع عن الوحدة.
- هذه الحماسة قد يكون سببها العكس، أي عدم القناعة، أو إخفاء قناعتهم. المشكلة في أنهم ليسوا شركاء في صنع القرار فحسب، بل أيضاً في أن السلطة لا تعترف بهم كممثلين للجنوب. بعد الحرب التقيت علي محسن الأحمر، وتحدثنا طويلاً. قلت له: حصلت حرب، واختفى الطرف السياسي الذي حمل الجنوب إلى صنعاء، ولا يوجد بديل له حتى الآن، وإذا تريدون معالجة الأمور خلونا نحن (في الاشتراكي) نعلن بأن إدارتنا للأزمة كانت خاطئة، وهذا يساعدكم على أن تعلنوا أن الحرب ليست الحل. وهذا سيمثل مدخلاً لمعالجة المشكلة. رد علي محسن قائلاً: أنْ تقولوا بأنكم أدرتم الأزمة بشكل خاطئ، فهذا صحيح، لكن أن نقول (في المقابل) بأن الحرب ليست الحل، فهذا غير ممكن وغير صحيح، فالحرب حافظت على الوحدة. قلت له: الحرب عندك حافظت على الوحدة، لكنها عندي لم تحافظ على الوحدة، بل أسقطتها، ليس عندي أنا بل واقعياً. رد علي محسن مؤكداً على موقفه، وأضاف أن كل شيء تمام وطبيعي، وهناك فقط مشكلة اقتصادية نواجهها. قلت له: لكن حتى الآن لا يوجد شرعية للوضع القائم إلا بوجود طرف جنوبي. قال: ليش، يعني عبدربه منصور هادي (نائب الرئيس)، وأحمد مساعد حسين والبطاني (وعدد آخر) ليسوا بديلاً؟ قلت: بديل ونصف، وهم أحسن منا، لكن اعترفوا أنهم يمثلون الجنوب. قال: لا، هم لا يمثلون الجنوب، نحن وطن واحد. قلت: هذا الكلام يمكن أن تخدع به نفسك، لكنه لا يقنع أحداً في الجنوب، وأضفت: أعلنوا أن الإخوة الجنوبيين الذين قاتلوا معكم في الحرب يمثلون الجنوب، وطبقوا اتفاقية الوحدة معهم، أو خلونا نتفق على معالجة المشكلة معاً. نحن نقول بأن إدارتنا للأزمة خطأ، وأنتم تقولون بأن الحرب ليست الحل. قال: لا، لا. فقط نوسع.
يقصد توسيع المشاركة في السلطة لصالح الجنوبيين؟
- يقصد إلى جانب عبدربه منصور وغيره، يتم تعيين آخرين في السلطة. قال لي: نجيبك أنت، ونجيب فضل محسن، و... قلت له: يا عزيزي، أنا لا أصلح أن أكون معكم في السلطة إلا بمصالحة وطنية، لأنني في الأزمة وقفت مع عدن، قد يكون وقوفي هذا على حق وقد يكون على باطل: إذا كان على حق فإنه لا يعقل أن أمشي معكم على باطل مقابل منصب سبق أن كنت فيه، وإذا كان على باطل فبأي وجه سأظهر فيه معكم وأنا على باطل؟ لهذا لست صالحاً لأن أكون معكم في السلطة.
هذا اللقاء كان بعد الحرب مباشرة؟
- بعد عودتي من الخارج أواخر 1996. هو أرسل اثنين إلى منزلي يطلبني للجلوس معه في منزله، هما: ناصر عمر الشيخ، وهو كان عضو مجلس نواب من مودية، ومحمد عبدالله الحامد وهو شيخ من الإصلاح، وهو أيضاً من مودية، من نفس منطقتي. جاؤوا وأخذوني إلى منزله، وعندما بدأنا نخزن استعدا للمغادرة، فقلت لهما اجلسوا علشان تسمعوا الكلام. وقد قلت لعلي محسن: شوف، هؤلاء (الشيخ والحامد) يصلحوا يكونوا معكم لأنهم وقفوا معكم.
لأنهم كانوا ضمن المعسكر المنتصر في الحرب؟
- نعم. وقلت له: أما نحن فلا نصلح نكون معكم. امشوا وإن وصلتم البلد إلى بر الأمان، فقدها لنا ولكم، وإن وصلتوها إلى ظلام فلكم وحدكم. إخواننا الموجودون في السلطة لا تعترف بهم صنعاء بأنهم ممثلون للجنوب، ولما تكون صنعاء لا تعترف بهم، وهم من جانبهم لا يدعون ذلك، فإنهم يكونون موظفين.
لكن موقفهم مبرر دستورياً. دولة الوحدة اندماجية وفق الدستور، والمرحلة الانتقالية انتهت مع أول خطوة تجسد بها هذا الدستور (الذي تم إقراره في استفتاء شعبي عام 91) وذلك في الانتخابات البرلمانية التي جرت في 27 أبريل 1993، وبالتالي فإنهم مثل أي مواطن يمني في السلطة، فعبدربه منصور هادي موجود في موقعه التنفيذي باختيار من الرئيس وطبق الدستور، وبعد حرب 1994 التي عمدت الوحدة القائمة بالدم كما يقال.
- هذا المنطق يستقيم إذا لم تقع حرب. لكن بعد حدوث الحرب يكون الحديث عن شرعية الاتفاقات والدستور لا معنى له. لماذا؟ لأن الوضع القائم الآن قائم على أساس7 يوليو وليس 22 مايو. لو كان الوضع قائماً على أساس 22 مايو فإن هذا الكلام يستقيم، لأن اتفاقية إعلان الوحدة شرعية والدستور شرعي.
وانتخابات 1993 التي أفرزت برلماناً؟
- كل شيء شرعي، لكن طالما الوضع قائم على 7 يوليو، فإن الحديث عن شرعية الاتفاقات والدستور لا معنى له.
هذا أولاً. وثانياً، فإن الاستفتاء على الدستور تم بعد إعلان الوحدة، وإذن فإن الاستفتاء لم يكن على الوحدة بل على الدستور، ومع ذلك فإن هذا الدستور ألغي بعد الحرب. كان الدستور يحتوي على 120 مادة، وقد تم إلغاء 80 مادة منه وبقيت 40 مادة من الدستور الأصلي، وأضافوا عليها 40 مادة جديدة.
الذي أجرى هذا التعديل هو البرلمان المنتخب.
- برلمان ما بعد الحرب.
لكن كتلة الاشتراكي كانت موجودة في البرلمان، وأغلبها شارك في التعديل؟
- الوضع بعد الحرب خرج من الحزبية.
ومع ذلك فإن قراري مجلس الأمن الصادرين أثناء الحرب تعاملا مع ما جرى في اليمن باعتباره حرباً أهلية داخل دولة واحدة. القراران أكدا على وقف العمليات، ودعوا الطرفين المتقاتلين إلى العودة إلى الحوار، وتلاهما التزام من الحكومة اليمنية نهار 7 يوليو بتطبيق وثيقة العهد والاتفاق ومعالجة آثار الحرب. وكما ترى فإن القرارين يؤكدان على حل سياسي للأزمة ولكن تحت سقف دولة الوحدة.
- السلطة تجاهلت هذا كله. القراران ما يزالان قائمين، وهما ملزمان للطرفين، لكن النظام (الحاكم) حتى الآن لا يعترف بالشرعية الدولية في ما يخص هذين القرارين، ولا يقبل الحوار على أساسهما. بالنسبة لانتخابات 1993 فإنها أفرزت نتائج شطرية. الجنوب انتخب قيادته السابقة نكاية بصنعاء، والشمال انتخب قيادته السابقة نكاية بالقادمين من عدن. أنا كنت مشرفاً (حزبياً) على انتخابات أبين وشبوة. الاشتراكي في مودية رشح مدرساً، ورشح الإصلاح حسين عثمان عشال، وهو قائد الجيش الأسبق، وشخصية مرموقة ومعروفة للناس. مرشح الاشتراكي لم يكن معروفاً، حتى أنا لم أكن أعرفه. انتخب الناس المدرس وأسقطوا حسين عشال.
لكن عشال كان منقطعاً عن المنطقة قرابة ربع قرن.
- صحيح، لكنه شخصية معروفة، وكان مدعوماً من الإصلاح ومن السلطة، ومع ذلك سقط أمام المدرس، ليس لأن الناس لديهم موقف منه، بل لأنه مرشح صنعاء، ولأن المدرس مرشح عدن.
لماذا لا نقول إن الاشتراكي كان صاحب القدرة على استخدام آليات ومقدرات الدولة والقوة في دوائر الجنوب تماماً كما أن المؤتمر والإصلاح كانا أقدر على الاستفادة من هذه الآليات والمقدرات في دوائر الشمال؟
- هذا صحيح، ولكن تأثيره نسبي في الأصوات.
لنضرب مثلاً آخر عن انتخابات 1993، عمر الجاوي وهو شخصية تحظى باحترام فإنه في دائرة خور مكسر عدن تعرض لسقوط مروِّع في مواجهة مرشح الاشتراكي. الجاوي، كما هو معروف، ليس مع (السلطة في) صنعاء، ولا يمكن أن يحسب عليها، وهو مرشح في عدن حيث لا توجد عصبيات اجتماعية قبلية، ورغم ذلك أسقط بفارق 9 آلاف صوت.
- عمر الجاوي أُسقط بالعسكر وليس بالناس.
هؤلاء العسكر يلتزمون قراراً سياسياً وحزبياً؟
- قرار حزبي وقرار عسكري. والعسكر ما بيخالفوا قائدهم. الشعب لم يسقط الجاوي، العسكر هم من أسقطوه. في خور مكسر كانت توجد قوة عسكرية ضاربة، وهناك قوى أمنية، وأكثرية سكان خور مكسر هم عائلات هؤلاء العسكر، ولهذا فإن الشعب لم يسقط الجاوي بل العسكر.
ألم تقم أنت بأي جهد للحؤول دون هذا؟
- لم أكن المشرف على عدن، كنت مشرفاً على أبين وشبوة. كان يوجد انضباط حزبي، ولم يكن جائزاً أن يتدخل أحد في شؤون أحد.
من كان المشرف على عدن؟
- سالم صالح محمد. خذ مثلاً دائرة مكيراس، المؤتمر الشعبي رشح محمد عبدربه جملة، وهو مناضل قديم من الجبهة القومية، وفدائي، وشخصية بارزة في مكيراس، الاشتراكي رشح مدرساً اسمه المسيبلي، سقط محمد عبدربه بشخصيته البارزة أمام المدرس، لأنه مرشح صنعاء، فيما المدرس مرشح عدن. الأمر نفسه في شبوة، المؤتمر رشح عبدالله علي طرموم، وهو مناضل معروف، ونحن في الاشتراكي رشحنا فلاحاً من عسيلان -بلحارث، وهو مش معروف، حتى أنا المشرف على شبوة لم أكن أعرفه. وقد سقط طرموم لأنه مرشح صنعاء، وهكذا فإن نتائج الانتخابات جاءت شطرية.
حصل انحياز فعلاً، ولكن توجد عوامل أخرى تؤخذ في الاعتبار عند تحليل النتائج، فعلى سبيل المثال فإن الحزب الاشتراكي بصرف النظر عن عدد المقاعد التي حصدها في محافظة شمالية مثل تعز، ومع تحييد الأخطاء التحالفية للحزب، فإن الحزب جاء أولاً من حيث عدد الأصوات.
- صحيح، لكن إدارة الانتخابات من قبل الاشتراكي في تعز كانت ضعيفة.
هذا الكلام قد يغضب صديقك الأستاذ عبدالواحد المرادي الذي كان مشرفاً على انتخابات تعز.
- نحن لا نتحدث عن أشخاص، لكن هذه هي الحقيقة. إذا كنا في الأصوات جئنا أولاً ولكن حصدنا مقاعد أقل، فهذا يعني سوءاً في تقديرات الإدارة.
علاوة على مساوئ النظام الانتخابي، وإخفاق في إدارة الحزب لتحالفاته، هناك أيضاً مساوئ النظام الانتخابي القائم على أساس الأغلبية النسبية(دائرة فردية صغيرة.
- صحيح ولكن هذا أيضاً تأثيره نسبي. أتذكر أن الرئيس طلب من الاشتراكي ضمان مقعد للمؤتمر في حضرموت، ومعقد في أبين حتى لا تكون النتائج شطرية بالكامل، وتم تلبية طلبه. وبعد الانتخابات طلب علي سالم البيض من علي عبدالله صالح عقد لقاء لتقييم النتائج، ولماذا جاءت شطرية. قال البيض للرئيس: إن كانت النتائج بفعل فاعل فإنه من السهل تجاوزها، سواء كان الفاعل نحن (في الشمال وفي الجنوب) أو أطرافاً خارجية، لكن إنْ كانت هذه النتائج تعبيراً عن قناعة شعبية فهي مشكلة كبيرة. وافق الرئيس علي عبدالله صالح على عقد اللقاء، لكنه لاحقاً رفض الجلوس مع البيض
لنعد مجدداً إلى وثيقة اللقاء المشترك (رؤية الإنقاذ)، أنت لم يصدر عنك قبل هذا الحوار موقف من هذه الرؤية والدعوة التي وجهها المشترك للحوار حولها. على أنني أود سؤالك ما إذا كنت قدمت نصحاً لمكونات الحراك بشأن الموقف الذي يتوجب اتخاذه حيال الوثيقة ودعوة الحوار؟
- نعم. بعد إعلان الوثيقة تسرع شخص أو شخصان وأصدرا بيانات ضد الوثيقة، وقد نصحتهم ألا يكونوا مع الوثيقة ولا ضدها، لأنهم إذا أيدوا الوثيقة ستكون وثيقتهم، وهي لا تحمل حلاً للقضية الجنوبية.
هي تتضمن مقترحات حل؟
- والأكثر من هذا إذا ما فشلت الوثيقة وهم معها تسقط شرعية قضيتهم.
هذه نقطة غامضة، كيف ستسقط شرعية قضيتهم؟
- إذا أصبحت وثيقتهم وفشلت.
يعني إذا لم تتجسد واقعاً، ولم يستجب لدعوة الحوار الوطني؟
- أما إذا وقفوا ضدها فإنهم سيظهرون وكأنهم واقفون في صف النظام وسيقوون شوكته.
السلطة من اللحظة الأولى أعلنت رفضها المطلق للوثيقة؟
- ولذلك نصحتهم ألا يقفوا معها وألا يقفوا ضدها.
في انتظار ماذا؟
- إذا ما استطاع أصحاب الوثيقة إقناع السلطة بقبولها، أو يفرضوها عليه بالعصيان المدني، حينها يمكن للحراك أن يبدي رأيه فيها. هذا ما نصحتهم به، وهم استجابوا تقريباً.
بالنسبة لقيادات الخارج، وحسبما أسمع وأتابع، تصدر عن بعضها مواقف قريبة من مواقف المشترك. وعقب ما حدث في زنجبار من صدامات في 23 يوليو 2009، طلع بيان لعلي ناصر وحيدر العطاس يحمل مضامين مشابهة لما يصدر عن المشترك، سواءً في الوثيقة أو من شروط يضعها المشترك على السلطة لاستئناف الحوار. وفي المحصلة هناك مؤشرات قوية على تفاهم بين لجنة الحوار الوطني وقيادات في الخارج، وتتم ترتيبات حالياً للقاء في الخارج يضم المشترك وعلي ناصر محمد وحيدر العطاس وآخرين؟
- على حد علمي يوجد اتصالات بين الأخوين علي ناصر والعطاس من جهة واللقاء المشترك، وبالذات (الشيخ) حميد (الأحمر) من جهة ثانية. الاتصالات كلها تستهدف البحث عن حلول لمشكلات البلد، لكن الإخوان في اللقاء المشترك ولجنة الحوار أخرجوا الوثيقة (رؤية الإنقاذ) برؤيتهم، لكن رؤية علي ناصر والعطاس ليست موجودة.
لا أتفق معك في هذا، العطاس على سبيل المثال، قبل عام، وفي حوار أجريته معه، كان يقول بأن الفدرالية على أساس إقليمين، شمالي وجنوبي، قد تكون مخرجاً.
- مع ذلك المشترك ولجنة الحوار لم يتبنيا هذه الفكرة.
حسب معلوماتي فإن المشترك (ولجنة الحوار) وضعوا الفدرالية كخيار للحوار، ولكنهم لم يتبنوه، وكان هناك نص أولي قبل الإعلان النهائي للوثيقة، يقول بالفدرالية على أساس تقسيم اليمن إلى وحدات تتراوح بين 2 إلى 5 أقاليم (أو ولايات). في نهاية المطاف فإن هناك اقتراباً من رؤية العطاس ومحاولة لاستيعاب مطالب الحراك؟
- في تقديري أن البدائل التي وضعوها لم تحدد قناعتهم بالضبط.
لعلهم يريدون تجنب أزمة داخلية في ما بينهم، ولذلك تركوا الأمور معلقة.
- كما تحدثنا قبل قليل فإن على أحزاب المشترك أن يحددوا هويتهم، وإذا تحقق ذلك فإنهم سيتمكنون من التعاطي بشكل واضح مع مختلف الأطراف، ما لم فإن القضية الجنوبية ستكون بين السلطة والجنوبيين، ومشكلة صعدة ستكون بين السلطة والحوثيين، ويخرج المشترك نهائياً.
يتحول إلى معلق أو مراقب يبدي رأياً في التطورات. من ناحية إجرائية ومنطقية أيضاً، لا تستطيع كحركة سياسية، وفي اللحظة الراهنة في اليمن، أن تقول أنا أريد إما فدرالية وإما حكماً محلياً وإما نظاماً مركزياً، إما أن تطلب فدرالية أو تطلب حكماً محلياً. ويبدو أن الخلافات داخل المشترك حول الفدرالية، وبالذات على أساس إقليمين، مثلت عائقاً، ولذلك تجاوزوا الخلاف حول هذه النقطة وتركوا الأمور معلقة.
- إذا أرادوا أن يتجنبوا هذا المأزق كان يتوجب عليهم أن يجلسوا أولاً مع الأطراف الجنوبية في الداخل والخارج، ويأخذوا وجهة نظرهم، ويجلسوا مع الحوثيين ويأخذوا وجهة نظرهم، وبعد ذلك يقدموا رؤية تستوعب وجهات نظر الأطراف المعنية بالمشكلات. لكنهم يقدمون أنفسهم الآن كوسيط يحاول إرضاء هذا الطرف أو ذاك الطرف.
لننتقل إلى موقعك أنت من هذا الذي يجري في الجنوب، الحراك جاء من مقدمات ورؤى كانت مطروحة منذ أكثر من عقد، بالذات من تيار "إصلاح مسار الوحدة"، وأنت أحد أقطاب هذا التيار. كصحفي أتابع مجريات الحراك منذ البداية وحتى الآن، لا أراك ظاهراً في واجهة المشهد الجنوبي؟
- كل التيارات الجنوبية ذابت في الحراك؛ تيار إصلاح مسار الوحدة ذاب فيه، وحركة تاج ذابت في الحراك.
ربما بالنسبة لتيار إصلاح مسار الوحدة، لكن بالنسبة لتاج فإنها ما تزال تصدر بيانات بشكل منفرد، وأحياناً توجه نقداً حاداً لمكونات أخرى وشخصيات جنوبية؟
- هذا كله بسبب الفراغ القيادي الذي تحدثنا عنه، لكن كل هذا سينتهي عندما يتبلور إطار سياسي واحد وقيادة واحدة وخطاب سياسي واحد وشعار واحد. من الطبيعي أن يحصل هذا كله لأن الشارع انفجر وسبق الوعاء السياسي.
لأن الحراك بدأ كحركة احتجاجية شعبية من الشارع؟
- نعم، وهذه الهيئات التي طلعت جميعها يبحث عن حامل سياسي لهذا الحراك.
وبالنسبة لك، أين موقعك؟
- كتيار أم كشخص؟
كشخص؟
- كشخص لدي ظروفي الصحية، فلدي بداية تضخم في القلب، وطبعاً تقدمت في السن. لكنني أسعى مع غيري لتحقيق هدف وحدة الحراك في إطار سياسي واحد وقيادة موحدة وشعار سياسي واحد ورؤية موحدة.
يعني باختصار أنت تقوم بتأثير روحي، وتلعب دوراً في سبيل تحقيق وحدة الحراك؟
- نعم، لأن الواحد عندما يكون في هيئة صعب يتوافر على لغة مشتركة مع هيئة أخرى.
هذا المسعى لبلورة قيادة موحدة بدأ، على ما أظن، في لقاء العسكرية (أكتوبر 2008)، وأنت شاركت في هذا اللقاء؟
- أنا من دعوت إلى اللقاء في العسكرية. كان الناس مشحونين، ولاحظت أن أمر بلورة قيادة موحدة ما يزال غير ممكن وسابقاً لأوانه، فاتفقنا على بعض القضايا العامة، وتركنا الأمر حتى تتفرغ الشحنات.
ومع ذلك أعلن يومها تشكيل لجنة برئاسة حسن باعوم.
- ضاحكاً - بعد اللقاء مباشرة.
أكان متفقاً على هذا في اللقاء؟
- لا. لم يكن متفقاً عليه.
كيف فسرت هذا الإعلان؟
- شحنة اندفاعية، وليس من مصلحة الحراك أو القضية خلق مشكلة بسببه. شباب عندهم اندفاع، وهم في حاجة إلى وقت وشيء من الخبرة. الاندفاعية لا يمكن مواجهتها بالكبح، بل دعها تأخذ مداها، وسيأتي العقل لاحقاً.
لكن هؤلاء ليسوا شباباً، فحسن باعوم هو من مجايليك ورفيقك منذ زمن طويل؟
- حسن باعوم مناضل ورجل صلب وصاحب أدوار كبيرة، ومن مؤسسي تيار إصلاح مسار الوحدة. هو دائماً يتمتع بروح الشباب وروح الاندفاع، طبعاً لديه خبرة طويلة، وكان من فدائيي الجبهة القومية، وهو طيب وصادق ومافيش عنده دبلوماسية، وهو رجل ممتاز ميدانياً.
هل أصابك إحباط بعد لقاء العسكرية؟
- نعم، وقد أحسست بأننا في حاجة إلى وقت قبل أن تتبلور صيغة قيادية موحدة. هذا الوقت قد يكون غير مرغوب، لكنه أمر واقع. الآن يوجد إجماع على التوحيد، وهناك ضغط من أسفل على المكونات.
يوجد ضغط، ولكن أيضاً هناك مؤشرات على تشرذم. أمس وأول أمس تابعت مضامين الكلمات والبيانات الصادر عن مختلف الأطراف والمكونات والقيادات، ولاحظت أن الأمور تسوء. وما كان يجري الحديث عنه من خلافات بشكل هادئ ولغة ديبلوماسية يجري التعبير عنه راهناً بطريقة حادة وإقصائية. ناصر النوبة قال أول أمس في ردفان
إنه ضد تجيير القضية الجنوبية لصالح الإرهاب أو حسابات إقليمية، لكأنه كان يشير إلى طارق الفضلي وعلي سالم البيض؟
- أحياناً في شبكة الانترنت يتم تحريف الأقوال، وتحدث تسريبات أمنية.
صحيح، ولكن ما أقوله الآن أنا متأكد منه.
- بالتأكيد تحصل تسريبات أمنية لإحداث الفرقة بين الناس، وأحياناً تحصل انفعالات، وفي المطاف الأخير سيسير الناس في طريق واحد بشكل حتمي.
تتحدث عن حتميات؟
- أتحدث عن أشياء أعرف أنها ستتحقق.
أشرت إلى أن تيار إصلاح مسار الوحدة ذاب في الحراك. أتريد أن تقول إنه لا يوجد قرب نفسي أو ذهني بينك وبين حسن باعوم أو عبدالرحمن الوالي أو غيرهما؟ ألا تمثلون كتلة داخل هذا البحر الجنوبي الهائج؟
- هذا كان زمان في الثقافة الاشتراكية والثقافة القومية العربية. لا. الآن الواقع مختلف، وقد تعلمنا كثيراً من الماضي. التيار ذاب في الحراك، وأنا متأكد تماماً أن كل التيارات الجنوبية ذابت في الحراك بما في ذلك فروع الأحزاب.
لنناقش هاجس الدمج القسري، كنتُ كتبتُ ناقداً أصحاب هذا الهاجس الذين يستدعون تجربة الدمج القسري بين الجبهتين القومية والتحرير، لافتاً إلى غياب فاعل إقليمي يؤدي الدور المصري الذي كانت كلمته نافذة على الجبهتين، علاوة على أن الجبهتين القومية والتحرير وكذلك الرابطة نشأت جميعها على أساس "وطني جنوبي"، في حين أن مكونات الحراك أقرب إلى أن تكون محلية. ومع ذلك هناك اتهامات لمجلس قيادة الثورة بأنه يريد احتكار التمثيل. وبعد إنشاء هذا المجلس بأسابيع ظهر أنه أثار حساسيات لدى أطراف أخرى تشعر بأنها عرضة للتهميش وربما الابتلاع.
- الوضع مختلف فعلاً. في السابق كان السائد هو الرأي الواحد. اليوم أصبحت الديمقراطية أرضية خصبة للسياسة في مختلف أنحاء العالم. هذا عصر الديمقراطية وليس عصر الإرادوية. يمكن يختلف الناس في الآراء، والتطورات هي من ستقول من هو صح ومن هو خطأ.
وماذا نقول عن هذه اللغة الاتهامية للنوبة وآخرين، وفي المقابل فإن مجلس قيادة الثورة السلمية يقدم نفسه كممثل شرعي ووحيد، وكذلك يفعل علي سالم البيض؟
هناك من يرى أن الظروف الراهنة تتطلب الالتفاف حول قيادة واحدة هي قيادة علي سالم البيض باعتباره حامل الشرعية، وهو من وقع اتفاقية الوحدة، وهو من كان طرفاً خلال الأزمة والحرب، وهو من أعلن فك الارتباط في 21 مايو 1994، وهذه ورقة لابد من الاستفادة منها. ويوجد آخرون يرون أنه لابد من التعود على التعددية من الآن. وتوجد أيضاً (النزعات) الذاتية، وهذه ينبغي أن تتفهمها. البعض يفكر بشكل ذاتي، ويتساءل من الآن: وأنا أين موقعي؟
تقصد من القيادات القديمة أم الجديدة؟
- الجديدة. القيادات القديمة هذا ليس وارداً عندهم.
ألا تتوقع أن يحصل انقسام بينهم؟
- لا. لا.
ولا أن يحصل تسابق بسبب صلات إقليمية. لعلك قرأت ما قاله البيض لجريدة "الأخبار" البيروتية عندما امتدح إيران وانتقد ضمناً السعودية وبلدان الخليج؟
قرأت ما قاله. لكن القيادات الجنوبية علمتهم التجارب القديمة أن الخلاف فيه ضرر كبير. الشباب يمكن أن يحصل عندهم هذا، على أن الديمقراطية هي ضمان للتفاهم، وعلينا أن نتفهم النزعة الذاتية لدى بعض الشباب، ونستوعب طموحاتهم، ومتى حُلت المشكلة فإن الوطن سيتسع للجميع.
أي وطن تقصد: الوطن الجنوبي أم الوطن اليمني؟
- ضاحكاً - الوطن اليمني كله إذا ربنا سيهدي السلطة وسيهدي المعارضة إلى تفهم القضية الجنوبية. الشيء الأكيد أنه لا يمكن أن تقوم خلافات تصادمية بين هذه الأطراف والمكونات.
ما أسمعه يشير إلى إمكانية حدوث ارتطامات وصدامات، حتى في ما بين القيادات التاريخية، وعلى سبيل المثال فإن اللقاء المزمع عقده في الخارج بين معارضة الداخل والخارج، قد يستثنى منه البيض بسبب رغبة بعض الأطراف.
- بالنسبة لمن يوصف بـــ"الحرس القديم"، نحن متفقون مبدئياً أنه "إذا لم نتفق لن نختلف"، وهذا مبدأ جميعنا يلتزمه.
ربما أنت تلتزم به، لكن غيرك لا.
- لا،لا. أنا واثق من هذا.
أين تصنف حسن باعوم، هو من الحرس القديم؟
- باسماً - هو طبعاً من الحرس القديم.
ومع ذلك تصدر عنه تعبيرات حادة ضد قيادات من الحرس القديم، وكنا نشرنا في "النداء" في أبريل الماضي، حواراً معه هاجم فيه قيادات الخارج بقسوة، واتهمهم بالتخلي عن القضية الجنوبية طيلة 15 عاماً، والآن ظهروا ليركبوا موجة الاحتجاجات. ما أقصده أن أفراد الحرس القديم متفاوتون في التزام هذا المبدأ؟
- بعض الإخوان قد يقول شيئاً ولا يقصده.
ربما بغرض توجيه العتاب.
- صح.
جميل حرصك على التخفيف من حدة ما يقوله باعوم.
- أنا أعرف باعوم، ويجمعه قاسم مشترك بعلي سالم البيض. إن وثق يسلم نفسه، وإن شك لا يعود يصدق أحداً.
لنأخذ الخلفية الثقافية والاجتماعية للحراك وناشطيه. نحن في "النداء" نتابع الحراك منذ وقت مبكر، وحينها كان التجانس بادياً بين ناشطيه، خصوصاً مع انطلاق حركة الاحتجاجات، لكن رويداً رويداً بدت هذه الميزة تتلاشى مع دخول فئات أخرى بينها من يتم وصفهم بالسلاطين، وهناك مدنيون وريفيون، ويلاحظ تفاوت في القيم المدنية والسياسية لهؤلاء؟
- من الطبيعي أن يدخل أبناء السلاطين، ونحن نرحب بهم.
هل التقيت بعضهم؟
- نعم. التقيت طارق الفضلي، والتقيت فيصل جعبل، والتقيت عدداً آخر، ومستعدون للالتقاء بغيرهم، لا مشكلة في هذا. القضية الآن قضية وطنية. وسبق أن قلت في الصحافة إن حرب 1994 جعلت القضية الجنوبية قضية جنوبية تخص كل الجنوبيين من السلاطين إلى المساكين. وهذا حاصل في الواقع، الحراك فيه أبناء السلاطين، وفيه أبناء الكادحين. التناقضات الاجتماعية لن يكون لها فاعلية في الواقع إلا بعد حل القضية الجنوبية.
أحياناً تظهر مبكراً، كما حدث قبل الاستقلال بين الجبهة القومية وجبهة التحرير والرابطة؟
- لا، مش ممكن.
أتحدث عن تجانس قيمي وطبقي اجتماعي. النوبة على سبيل المثال حذر أول من أمس الثلاثاء، 13 أكتوبر) وكذلك في بيان له قبل نحو شهرين، من محاولة اختراق الحراك، لافتاً إلى الإرهاب، وكذا من مخططات إقليمية، وينبه إلى مخاطر الدمج القسري، ويرفض علانية الربط بين مشكلة صعدة والقضية الجنوبية. كصحفي أقرأ في ما يقوله أنه يقصد طارق الفضلي، وينتقد مجلس قيادة الثورة السلمية، ويشير إلى البيض في ما يخص الأبعاد الإقليمية؟
- بعض هذه النقاط التي تشير إليها صحيحة نظرياً، لكن من الناحية العملية غير ممكنة، وبعضها قد لا يكون دقيقاً من الأساس. مثلاً الربط بين القضية الجنوبية وصعدة غير قائم.
يظهر شكل من التنسيق بين علي سالم البيض والحوثيين، أقله تنسيق سياسي وإعلامي، سواء ما يصدر عن البيض من بيانات ومواقف ونداءات أو من خلال المواقع المقربة من البيض، والمكرسة تماماً لترويج وجهة نظر الحوثي مما يجري في صعدة.
- هذا ليس ربطاً بين القضيتين. الربط يعني أن القضيتين هما قضية واحدة. مسألة التعاطف موجودة. أنا أشعر أن البيض والإخوان في الخارج، وحتى في الداخل، متعاطفون مع الحوثي من زاوية احترام المذهب الزيدي وتاريخ الزيدية. ليس من مصلحة البلد استهداف هذا المذهب الذي هو من نسيج المجتمع، وهم من جانبهم يشعرون أننا مظلومون، فيتعاطفون معنا، وهذا واجبهم.
فضلاً على الوشائج القديمة بين علي سالم البيض وحسين بدر الدين الحوثي، فمعروف أن علاقة قامت بين الاشتراكي وحزب الحق قبل حرب 1994.
- هذا صحيح، ولكن كيف قامت هذه العلاقة؟ عندما أعلنا الوحدة نصح الرئيس علي عبدالله صالح جار الله عمر بأن يربط الاشتراكي بعلاقة مع حزب الحق. وجار الله عمر قبل هذه النصيحة.
ألم تكن العلاقة مخططة أصلاً من الاشتراكي؟
- لا. الرئيس هو من نصح بذلك.
حزب الحق تأسس لاحقاً على بيان لعلماء الزيدية يؤيد الوحدة ضداً على بيان من علماء محسوبين على جماعة الإخوان المسلمين، أليس لهذا البيان أيضاً صلة بتطور العلاقة؟
- أعتقد أن الرئيس نصح الاشتراكي بعلاقة طيبة مع حزب الحق حتى لا يقفوا ضد الوحدة. وما أنا متأكد منه أن العلاقة نشأت بناء على نصيحة من الرئيس.
القرار كان قراراً من قيادة الحزب وليس قرار جار الله عمر؟
- لم نناقش هذا الأمر في الهيئات. لكن من البديهي أن يكون جار الله عمر تشاور بشأنه مع البيض.
وبحسب معلوماتي فإن الاشتراكي قدم دعماً لحزب الحق، تماماً كما فعل مع أحزاب ورجال قبائل في الشمال؟
- ربما، لكني لست على علم بذلك.
وعلى أية حال فإن علاقة قديمة وجدت بين البيض والحوثيين الذين كانوا حينها في حزب الحق، بل إن بدر الدين الحوثي تم قصف منزله في صعدة، وغادر لاحقاً بعد
حرب 1994 إلى إيران؟
- ما أعرفه أن حسين كان في حزب الحق ثم التحق بالمؤتمر الشعبي.
حسين لم ينضم إلى المؤتمر الشعبي بل أسقط في انتخابات 1997. يحيى بدر الدين هو الذي فاز كمستقل في انتخابات 2003، ثم انضم إلى كتلة المؤتمر في البرلمان. وعلى أية حال فإننا لن نذهب بعيداً نحو تفسيرات بدائية كالقول بأن الحوثيين والبيض والعطاس عدنانيون، ومن هنا تطورت العلاقة بينهم؟
- ضاحكاً - هذه مش موجودة عندنا.
أعرف، ولكن وسائل إعلام المؤتمر والإصلاح في المرحلة الانتقالية وبعد حرب 1994، كانت تلمح إلى هذا وهي تتحدث عن تحالف اشتراكي -ملكي. وعلى أية حال تعلم أن القضية الجنوبية تحظى بتعاطف وتأييد ليس في الجنوب فحسب، بل في المحافظات الشمالية، وكذا في المحيط العربي، وكذا من قبل منظمات حقوقية وإنسانية في المجتمع الدولي، وأحياناً يصدر خطاب عن بعض مكونات الحراك أو ناشطيه أو وسائله الإعلامية مصبوغ بالعدائية والحدة، ما مدى ملاءمة هذا الخطاب لقضية عادلة؟
- مثلما قلت في الجزء الأول فإن انفجار الشارع في الجنوب، والذي أخذ لاحقاً اسم الحراك، وفي نفس الوقت غياب حامل سياسي يحصل مثل هذا. والأمر الآخر فإن بعض ما يصدر في هذا الخطاب هو رد فعل على فظاعة العبث الذي تمارسه السلطة في الجنوب.
ومع ذلك يبدو لي أن بعض هذا الخطاب يصدر عن سابق تخطيط، ولغرض تصفية حسابات مع فترة حكم الحزب الاشتراكي بعد الاستقلال، كما تصدر أحياناً تعبيرات عدائية، وأحياناً مسفة، تجاه أبناء الشمال.
- أحياناً يحدث هذا لأن الطرف الآخر سواء كان سلطة أو معارضة (في الشمال)، لا يعترف أساساً بالوحدة. عندما يقولون وحدة وطنية، وعندما يقولون اليمن الواحد، وعندما يقولون الثورة الواحدة، هذه الواحدية المكرسة في ذهن السلطة وبعض أطراف المعارضة في الشمال، هي إنكار للوحدة، لأن الوحدة لا يمكن موضوعياً ومنطقياً أن تكون وحدة الواحد.
أذكرك هنا بما كان يقوله البردوني حول هذه النقطة. كان يقول إذا كانت الوحدة هي وحدة الواحد فهذا يعني أنه لم تقم وحدة، فالوحدة تقوم بين اثنين أو أكثر.
- صحيح تماما، هم ينطقون بكلمة وحدة، لكنهم يقولون لا يوجد جنوب. عندما يقول الإخوة في صنعاء هكذا فماذا تتوقع أن تكون ردة الفعل في الجنوب.
هذا مفهوم. لكن خلاف موقفك وآرائك المتسقة، وأنا أتابعك منذ أكثر من عقد، والمتماسكة بصرف النظر عن موقفي منها، في حين يتم الآن محاولة لاصطناع هوية جديدة باسم الجنوب العربي، ويتم نفي الهوية اليمنية كليةً عن الشعب في الجنوب، أو حتى الدولة المستقلة التي نشأت عام 1967. وما أقصده أن هناك نوعاً من الارتجال والعشوائية في التعاطي مع هذه المسائل دون بحث أو تدقيق، كما أن هناك بالتأكيد مقاصد سياسية وراء هذا.
- لو عدنا إلى الماضي قليلاً. قبل الاحتلال البريطاني كان الجنوب سلطنات، كل سلطنة تنسب إلى السلطان. وعندما جاءت بريطانيا لم تأخذ الجنوب من يد الأتراك ولا من يد صنعاء، وإنما من يد السلاطين.
لأنه كان هناك كيانات محلية قائمة؟
- أخذت الجنوب من يد السلاطين، وكانت السلطنات كيانات محلية، ولكن بمثابة دويلات، وهذا كان قبل ظهور اليمن السياسي الذي لم يظهر إلا في عام 1917. أما اليمن الجغرافي فكان موجوداً طبعاً، واليمن هو اتجاه جغرافي مثل الشام.
هذا نقاش موضعه في التاريخ، لكن ما أعرفه أن اليمن كان يمناً على الدوام. أنا اطلعت على التقسيم التركي لليمن خلال الاحتلالين الأول والثاني. بالنسبة للاحتلال الأول كان لحضرموت وضع خاص خارج ولاية اليمن. عدا حضرموت كانت كل المناطق تدخل في نطاق ولاية اليمن. وفي الاحتلال التركي الثاني في القرن الـ19 كانت ولاية اليمن هي ما تسميه أنت اليمن السياسي، أي مملكة الإمام يحيى بن حميد الدين التي ورثتها الجمهورية العربية اليمنية في سبتمبر 1962.
- لكن في ذلك الوقت لم تكن هناك دول عربية. كما أن عدد البشر قليل، وبالتأكيد زاد هذا العدد واحتاجوا لأكثر من دولة. ومفهوم الدولة اليمنية لم يظهر إلا في 1917.
في التاريخ يمكن لمن يريد أن يذهب إلى ما يعزِّز موقفه سواء كان مع اليمن كهوية أو ضدها. ورغم ذلك فإنه مع قيام الدولة الوطنية في الشمال والدولة الوطنية في الجنوب كانت مسألة الهوية اليمنية محسومة وليست مثار خلاف.
- لنعد إلى النقطة الأصلية. كانت هناك سلطنات، وعندما جاء الإنجليز بدأوا يفكرون في وحدة هذه السلطنات، وما كان يمكن أن يوحدوها تحت أسماء هذه السلطنات مجتمعة، بل جمعوها كلها وأسموها "اتحاد الجنوب العربي"، وظلت هذه التسمية موجودة إلى يوم الاستقلال في 30 نوفمبر 1967. قبل الاستقلال كان يوجد مشروعان: مشروع الجنوب العربي، ومشروع الجنوب اليمني. الثورة (ضد الاحتلال البريطاني) تبنت مشروع الجنوب اليمني، والإنجليز والسلاطين تبنوا المشروع الآخر. وسقط هذا المشروع مع سقوط الإنجليز والسلاطين، ونشأت دولة اليمن الجنوبية الشعبية. ولحظتها صار اليمن يمنين: يمناً شمالياً تعترف به عدن والمجتمع الدولي، ويمناً جنوبياً تعترف به صنعاء والمجتمع الدولي. الحديث الآن عن يمن واحد هو نفي للحقيقة والواقع.
هذا صحيح، إذا كان المقصود يمناً واحداً في كيان سياسي، لكن في ما يخص الهوية المسألة تتطلب تدقيقاً.
- من الناحية الجغرافية الجنوب يمني ولكن في المفهوم السياسي كان قبل الثورة "جنوب عربي" وبعدها "جنوب يمني". وهذا يعني أن اليمن يمنان باعتراف صنعاء والعالم. إذا صنعاء الآن تريد أن تتنكر لليمنين فهي عملياً تثبت هوية الجنوب العربي.
تقصد تحفزها؟
- نعم. المسألة طبيعية، أنا شخصياً إذا لم تعترف صنعاء بأن اليمن يمنان لا يعود أمامي إلا الجنوب العربي.
وكيف تعرّف نفسك في اللحظة الراهنة: يمني، يمني جنوبي، جنوبي عربي؟
- أنا جئت إلى صنعاء كيمني جنوبي. كنا يمنين. حصلت الحرب وما تلاها، ومن الصعب أن نرى القضية بوضوح ونُمسك بحلها إلا إذا اعترفنا بأن اليمن يمنان وليس يمناً واحداً. إذا نظرنا إلى القضية من زاوية اليمن الواحد لا يمكن أن نرى القضية الجنوبية، ولا يمكن أن نرى الحل لها. وسيكون باختصار ما يقوله الحراك وما نقوله نحن خطأ وليس له معنى. وإذا انطلقنا من أن اليمن يمنان يكون ما تقوله السلطة وما تقوله المعارضة خطأ وليس له معنى. نحسم هذه القضية وهنا نكون قد قطعنا نصف الطريق إلى الحل.
كنت أتابع ما يصدر عنك أو ما يصدر عن تيار إصلاح مسار الوحدة أو حتى عن مثقفين. كنتم تتحدثون عن شعب يمني، ولكن هذا الشعب عرضة للخطر بسبب هذه الواحدية التي يتم تسويقها. لم يتضمن خطابكم نفياً للهوية في المفهوم السيسيولوجي (الاجتماعي)، بل نفي لواحدية اليمن. بينما الوضع يأخذ منحى باتجاه نفي الهوية اليمنية الواحدة؟
- في مسألة الهوية بالمفهوم الذي تقصده، فإن هويتنا عرب كلنا من المحيط إلى الخليج، لكننا موجودون في كم دولة!
والهوية اليمنية تكون واحدة، ولكن وجدت أكثر من دولة أو عدة كيانات حتى في الشمال نفسه؟
- بالتأكيد. القضية قضية حقوق، قضية عدل ومساواة. لو الشعب في الجنوب له مصلحة في الوضع الحالي وجئنا نحن وشياطين العالم كله نحرضه على كراهية صنعاء، هل سيقبلون كراهية صنعاء، لن يقبلوا منا. والعكس صحيح، الناس في الجنوب فقدوا مصالحهم ونهبت أراضيهم وثروتهم ولن يقبلوا بأي حل إلا بإعادة ما نهب. الرئيس قبل يومين كان يتحدث في تجمع عسكري قائلاً: من فوض هؤلاء الحديث باسم الجنوب، لا أحد وصي على الجنوب. هل يعقل هذا الكلام؟ وهل يعقل أن شخصاً يقهر الناس يكون وصياً عليهم؟
كما ذكرت سابقاً، عندما كنت أتتتبع تيار إصلاح مسار الوحدة كنت ألحظ اتساقاً وتماسكاً حتى وإن اختلفت مع بعض مضامين ما يُطرح. في ما يخص الوحدة فإن تياركم كان يقول بأن الوحدة الحقة يمكن إنقاذها أو استعادتها إذا تم إصلاح مسارها الذي انحرف بالحرب. لم يكن لديكم مشكلة مع مفردات اللغة، أما الآن فإن الحراك صار حبيس اللغة، مهجوساً بها. يعني البيض عندما يتكلم عن الجنوب أشعر بأنه متوتر كلما جاء على ذكر الجنوب أو الشمال، هناك خوف من اللغة والمفردات المستخدمة، لكأنه يخشى أن تفلت منه صفة جنوب يمني أو جنوب عربي، وكذلك حال الآخرين.
- هذه الأمور كلها تحددها تصرفات وسلوك صنعاء وليس نحن.
لكن صنعاء قد يريحها هذا الاضطراب؟
- في تقديري الشخصي، هذا كله تحدده صنعاء. فكلما تصلبت وتشنجت، دفعت الناس إلى التشدد أكثر. عندما تنكر الجنوب يزداد تمسك الجنوبيين بجنوبيتهم. عندما تصر على واحدية اليمن وواحدية الثورة، يحصل النقيض.
بعيداً عن صنعاء، توجد مشكلة بين الشخصيات السياسية الجنوبية والمكونات حول العنوان؟
- صحيح. عندما تنكر صنعاء الجنوب وتصر على الواحدية، تدفع الجنوبيين نحو التشدد أكثر، ودرجات التشدد تتفاوت من شخص إلى آخر. عندما عدت من لندن (بعد رحلة علاجية) في أغسطس 2007، زارني مسؤول جنوبي في السلطة، ووقتها كان الحراك قد انطلق في 7 يوليو 2007. قال لي: الوضع صعب، والسلطة في مأزق. سألته: هل أتكلم معك كجنوبي أم كسلطة؟ قال: تكلم معي كسلطة. قلت له، وكنت متأكداً أنه سيوصل الكلام للرئيس: الحل في يدكم. أقنعوا الرئيس أن يدعو الجنوبيين للحوار لحل القضية في إطار وحدة. استبعدت أل التعريف لانه يدل وكأنها موجودة. قال لي: في إطار الوحدة. قلت لا. قال: ما الفرق؟ قلت: الوحدة يعني كأنها موجودة وهي مش موجودة. وأضفت: وفي الحوار يسمع من الجنوبيين الرد. ولا أعتقد أنهم سيرفضون هذه الدعوة، والحل لن يكون كما يريده علي عبدالله صالح، ولا كما يريده الجنوبيون. والحلول دائماً تنبع من الحوار. قال لي: هل ترى هذا ممكنا؟ قلت: أنا أرى الفرصة الآن، وإذا تأخرتم ربما تضيع. غادرني ثم زارني لاحقاً وسألني: لو فرضنا أن الرئيس قبل هذا المقترح، فمع من سيكون الحوار؟ قلت له: اتركوا هذا الموضوع. أنتم ادعوا الجنوبيين، لا تحددوا مع فلان أو علان. وجهوا الدعوة، وأنتم سترون من سيجيكم.
من كان سيأتي في حال وجه الرئيس الدعوة، يعني الاشتراكي ما يزال يعتبر نفسه معنياً بأي حل؟
- هو سألني فعلاً: هل سيأتي الاشتراكي؟ قلت له لا أعتقد الاشتراكي.
إلى جانب الاشتراكي يوجد حينها علي سالم البيض وحيدر العطاس وعلي ناصر محمد والقيادات الميدانية للحراك، وكذلك أنتم كتيار إصلاح مسار الوحدة؟
- الواحد يسأل عمن عندما يريد تحديده مسبقاً. المفروض يوجه الدعوة ثم يرى من سيأتيه.
قد يتصدى مثلاً نائب الرئيس عبد ربه منصور هادي وأحمد مساعد حسين ومحمد البطاني وغيرهم، ويقولون للرئيس لماذا لا تدعونا نحن، نحن أيضاً جنوبيون. ليس منطقياً أن يوجه أحد دعوة للحوار لطرف مبهم. إذا افترضنا اتفاق مكونات الحراك على ممثل سياسي متفق عليه، يمكن أن يحدث حوار.
- هذا الموضوع متروك لنا كجنوبيين. ونحن ليس لدينا حساسية لا من سلاطين يحاورهم الرئيس حول حل القضية ولا من الإخوة الجنوبيين في السلطة. المهم أن تُحل هذه القضية.
لكن قد ينزلق البعض نحو لغة تخوينية. عندما جرى حديث في الصحافة (مايو 2009) عن تحضيرات لحوار في القاهرة بين علي ناصر وحيدر العطاس وربما آخرين والسلطة، لاحظت ردات فعل عنيفة جداً من بعض مكونات الحراك.
- هذا يمكن أن يحصل من بعض الأشخاص الذين يعوزهم العمق في الأمور. الشيء البديهي أن أي طرف جنوبي يحاور السلطة على القضية الجنوبية سيتشاور مع كل الأطراف الجنوبية، ولا يستطيع أي طرف جنوبي أن يتحرك بدون التشاور مع كل الأطراف.
الرئيس علق في لقاء موسع قبل عدة أشهر على أولئك الذين يرددون بأن الجنوبيين الموجودين في السلطة مهمشون ومجرد موظفين، مؤكداً أن زملاءه في السلطة من أبناء المحافظات الجنوبية فاعلون ويمارسون صلاحياتهم كاملة، حتى إنه أشار إلى أحدهم قائلاً: "هذا هو أمامكم مسبع مربع"!
- سمعت هذا الكلام، وسبق أن أوضحت رأيي فيه في الجزء الأول من الحوار.
بافتراض أن الرئيس قرَّر أن هؤلاء الذين معه في السلطة هم الأجدر، وقال لهم تعالوا نفكر معاً كيف نحل القضية الجنوبية، هل تعتقد أن هؤلاء سيأتون إليكم لمناقشتكم حول الحل؟
- من حيث المبدأ لا توجد لدينا حساسية تجاه أي جنوبي، لكن على أي طرف جنوبي يدخل في حوار مع السلطة إذا أراد النجاح، التشاور مع جميع الأطراف.
في التراتبية الحكومية، يوجد مدير مديرية ومحافظ ومجالس محلية، ألا ترى أن الحراك انعكس إيجاباً على هؤلاء، وصاروا يمارسون صلاحيات أوسع، وأنا أسمع أن نائب الرئيس يمارس سلطات أوسع في المحافظات الجنوبية، أو لنقل يمارس سلطاته في إطار أوسع من محافظة في الواقع؟
- توجد ترقيعات ومحاولات من هذا القبيل، لكنها غير مجدية. بيت القصيد أن يعترف علي عبدالله صالح بالقضية الجنوبية وبالهوية الجنوبية، ويعترف بممثلين للجنوب، وحينها يمكن أن يكون للكلام جدوى.
أحصل بينك وبين الرئيس علي عبدالله أي شكل من التواصل حول هذا الموضوع مؤخراً، حتى بطريقة غير مباشرة؟
- لا. حتى الآن لا. عندما عدت من لندن اتصل بي يسأل عن صحتي ويهنئني على نجاح العملية الجراحية.
ولا حتى عبر رُسل؟
- لا.
ما أعرفه أن علاقة شخصية طيبة جمعت بينكما في السابق؟
- العلاقة الشخصية كانت طيبة عندما كنا في السلطة. عندما كنت نائب رئيس وزراء لشؤون القوى العاملة والإصلاح الإداري، في الحكومة الأولى وفي الحكومة الثانية (حكومة مايو 1990، وحكومة مايو 1993). العلاقة الشخصية تقوت (بيننا) بسبب أجهزة التنصت على اجتماعات المكتب السياسي للحزب الاشتراكي. كنت أختلف مع المكتب السياسي بالكامل في ما يخص الوضع الجديد الذي نحن فيه، والعلاقة بالرئيس. لم أكن أرغب في الدخول في عداء مع علي عبدالله صالح بعد أن أعلنا الوحدة وسلمنا الأرض والثروة. هذا ليس معقولاً. كنت مختلفاً مع المكتب السياسي، المكتب السياسي كان في وادٍ وأنا كنت في وادٍ. الرئيس كان يسمع ما يدور في اجتماعاتنا، وأذكر أنه أتصل بي مرة، وطلب مني أن أذهب إليه. ذهبت إليه في العاشرة صباحاً. قال لي أريدك أن تنضم إلى المؤتمر الشعبي، وسأعطيك عضو لجنة عامة. هذا طبعاً بعد إعلان الوحدة بأشهر. قلت له شوف إذا قالوا لك إن الاشتراكي انتهى وباقي فقط واحد سأكون أنا. قال: إلى هذا الحد؟ قلت نعم، قال: ليش؟ قلت له: نحن عشنا في هذا الحزب وهو امتداد لثورة الجنوب، خطأنا وصوابنا فيه، والخروج عنه إلى حزب آخر ليس له معنى، لأن الخارج من الحزب سيكون مجرد ضيف.
وهو تقبل منك هذا الكلام؟
- لا. هو قال أيش لكم من تاريخ، أنتم قتلتم قحطان وسالمين ومطيع وعلي عنتر وصالح مصلح، وقال أيضاً شيئاً من هذا الكلام. قلت له: على كل حال، في تاريخنا شيء من السواد وشيء من البياض، لكن هذا تاريخنا ونحن نعتز به. وبعدين رحت من عنده.
كنا في المكتب السياسي مختلفين لأنهم كانوا يقولون إن الرئيس وعلي محسن الأحمر لهما علاقة بتنظيم القاعدة والجهاديين.
المقصود الجهاديين لأن تنظيم القاعدة لم يكن قد أعلن وقتها؟
- نعم. وأن لهما علاقة بالاغتيالات والأحداث الأمنية في البلد. كنت ضد هذا الكلام، لأنه لا يعقل وجود ناس مسؤولين على بلد يخربون أمنه.
ألا تزال على هذا الرأي الآن؟
- لا. أنا اقتنعت بأن كلامهم صحيح، ولكن للأسف لاحقاً. كنت وقتها ضد هذا الكلام، في حين أن الآخرين في المكتب السياسي، جميعاً وبدون استثناء، مقتنعون بهذا الكلام.
كيف عرفتم بوجود عملية تنصت عليكم؟
- البيض حصل على تأكيدات بذلك، ولا أدري كيف حصل عليها.
كنتم تجتمعون في مقر الحزب الاشتراكي، فهل يعقل أن الاشتراكي بقدراته الأمنية وبخبرته في السلطة لا يتحوط لهذا الاختراق الأمني؟
- هم وفروا لنا هذا المبنى. واستلمناه منهم.
سمعت أيضاً أن بيوت بعض المسؤولين في الحزب كان يتم التنصت عليها. ماذا عن بيتك؟
- حتى بيتي. لم أكن أصدقهم في الحقيقة. صالح السيلي جلب أجهزة لكشف التنصت على اتصالاتنا. كانت أجهزة صغيرة يتم ربطها بالهاتف وتم توزيعها علينا. وكنت عندما اتكلم ألحظ دخول الطرف المتنصت فاختصر الكلام.
هذا بالنسبة للاتصالات، لكن ماذا عن المقر؟
- البيض جاء بأشرطة تسجيل حصل عليها من داخل الرئاسة تبيِّن أن اجتماعاتنا مسجلة. ومع هذا لم اقتنع لانني خشيت من وجود لعبة بيننا (داخل الحزب) لخلق صدام مع علي عبدالله صالح. كان هذا تقديري فأنا لم أكن اتوقع أن يحصل هذا، لم أكن اتصور أن يتم العبث بمشروع الوحدة ومشروع أمنها من المسؤول الأول.
متى كان هذا يحدث بالضبط؟
- في 1991.
ومتى اتضح لك تماماً صدقية هذا الكلام؟
- في 1993. بعد الانتخابات البرلمانية بالضبط. لم أكن مقتنعاً بإمكانية حدوث هذا، حتى أن البيض بنفسه اعطاني شريط تسجيل فيديو، وقال لي: اتفضل شوف. رأيت (في الشريط) أشخاص مقربين لعلي عبدالله صالح (...) في جلسة مع جهاديين، وهم يوزعون عليهم المهام والمتفجرات. غير معقول أن يكون هناك مسؤولون في الدولة ويقومون بتخريب أمنها.
وبصرف النظر عن التنصت على اجتماعاتكم، لكني ومن خلال تتبعي لآرائك ومواقفك، لاحظت انك تجنبت دوماً النيل من شخص الرئيس، قد تهاجم النظام أو موقع الرئاسة دون التجريح في شخص الرئيس، أيمكن أن يكون هذا سبباً إضافياً لمودة الرئيس تجاهك؟
- في السياسة لا يجوز التجريح الشخصي لأن القضية تتحول حينها إلى قضية شخصية. نحن نختلف مع سياسة الرئيس.
خلال فترة المشاكل داخل الحزب الاشتراكي بسبب مواقفك من «وحدة حرب 1994»، كان يُقال إنك برغم هذه المواقف الراديكالية فإن علاقة جيدة تجمعك بالرئيس. كان يُقال هذا من بعض المختلفين معك في الرأي؟
- المختلفون معي، الله يسامحهم، اتهموني باتهامات كثيرة. كأن يقال إنني عميل مع السعودية، أو مع المخابرات البريطانية، أو انني أريد مغادرة الحزب الاشتراكي والالتحاق بالجفري في الرابطة، وإنني اشتغل لصالح السلطة لشق الحزب الاشتراكي، كلام كثير من هذا القبيل. لكن أنا لم أكن اهتم بهذا لثقتي بأن الحياة كفيلة بإقناعهم بصحة مواقفي.
وانت الآن لا تحمل ضد هؤلاء أية مشاعر عداء أو بغض؟
- لا.
لنتحدث عن الملمح السلمي للحراك. أعرف أن لديك تحفظاً حول مسمى "مجلس قيادة الثورة السلمية"، لا أقصد المجلس في ذاته كمكون، ولكن الصفة الثورية في الاسم.
- أنا أفضل التسمية التي طلعت تلقائياً من الشارع الجنوبي، وهي: "الحراك الجنوبي". هذه التسمية اعترفت بها السلطة والمعارضة والعالم. والحديث الآن في الإعلام، سواء الداخلي أو الخارجي، هو عن "حراك جنوبي". استبدال هذه التسمية بتسمية أخرى ليس في صالح القضية وليس في صالح الحراك، وليس مفيداً. لهذا أنا متمسك بتسمية الحراك الجنوبي، وأية تسمية أخرى لا أراها صائبة.
هل أبلغت هؤلاء الذين شكلوا المجلس هذا الرأي؟
- نصحتهم، والحوار يدور حول هذه الفكرة، وهم يدرسونها واحتمال يوافقوا عليها.
وماذا عن التسميات الأخرى مثل المجلس الوطني والهيئة الوطنية للاستقلال ونجاح؟
- ممكن أن يكون الاسم مشتقاً من الحراك أو منسوباً إليه، مثل المجلس الوطني للحراك الجنوبي، نصحت كل الأطراف وألمس استجابة منهم.
الحراك، كما تعلم، تميز بأنه سلمي، وهذه ميزة غير مسبوقة في تاريخ المعارضات والاحتجاجات اليمنية. هذه الميزة كانت واضحة لدى الناشطين في الحراك خلال عامي 2007، و2008. الأمور، كما تبدو الآن، تأخذ منحى آخر، إذ نسمع من البعض تلويحاً باللجوء إلى القوة، كما تحصل أحياناً صدامات في الشارع. ألا تنتابك خشية من ضياع هذه الميزة؟
- الحراك سلمي، واستراتيجيته سلمية. وكل أطراف الحراك مقتنعة بالمبدأ السلمي وتنبذ العنف، وهذا المبدأ لا يمكن التخلي عنه. لكن قد تقوم أطراف خارجية أو أطراف أمنية من السلطة بدس عناصر في فعاليات الحراك للقيام بشغب كما حدث في الحبيلين والضالع (2008). الشغب حصل في الحبيلين والضالع، ولكن الاعتقالات وقعت في عدن، ما يؤكد أن السلطة وراء الشغب لتبرير الاعتقالات.
ولكن هناك في الحراك من يلوِّح بالعنف. علي سالم البيض قال لجريدة "الأخبار" البيروتية إن الطابع السلمي للحراك ليس سقفاً، وقال كلاماً مشابهاً في تصريحات لقناة فضائية، ويوجد آخرون يلوحون بإمكان اللجوء إلى وسائل أخرى.
- لا أعتقد أن يتجه الحراك إلى العنف، هذه استراتيجية. من المحتمل أن تكون هناك حالات شاذة تقع هنا أو هناك، وكما قلت فإن هذا قد يكون بسبب تدخلات خارجية أو تدخلات جهات أمنية. بالنسبة للبيض فأنا لم أسمع منه كلاماً في هذا الخصوص، وما سمعته هو تأكيداته في أكثر من مرة، بالتمسك بالنضال السلمي.
صحيح، أكد التمسك بالنضال السلمي مراراً. هذا ما فهمته من قوله إن الحراك السلمي ليس سقفا. ومع ذلك سأدقق في ما قاله لجريدة "الأخبار".
- ما أستطيع تأكيده هو أننا مقتنعون بأن الحراك سلمي ولا يمكن حرفه إلى العنف، لأن العالم كله مع النضال السلمي والديمقراطي، وفي حساب الربح والخسارة فإن الإنسان العاقل يدخل على خصمه من نقطة ضعفه وليس من نقطة قوته. ونقطة ضعف السلطة هي العمل السلمي، لأن السلطة لا تملك منطقاً في ما تمارسه. وسأعطيك مثلاً؛ حتى الآن لا تستطيع السلطة أن تحرك مسيرة في الجنوب مؤيدة لها إلا إذا جمعت عسكريين وأمنيين. حتى الجنوبيون الموظفون في السلطة بافتراض قناعتهم بالوقوف مع السلطة، فإنهم لا يستطيعون الوقوف معها في قمع النضال السلمي في الجنوب، لكن إذا انحرف النضال السلمي نحو العنف فهناك إمكانية لوجود جنوبيين يحملون السلاح مع السلطة ضد الحراك. لهذا فإن الحراك ثابت على مبدأ النضال السلمي.
لكن هناك من يجاهر باستخدام القوة مثل طاهر طماح الذي أعلن قبل أكثر من عام تشكيل "كتائب سرو حمير"، ويقول في تصريحات صحفية إنه يجند مسلحين لهذه الكتائب وينسب نفسه وكتائبه للحراك.
- أسمع بهذا. لكن الحكم على الأمور يتم انطلاقاً من النهج الرسمي لمكونات الحراك.
هذه الكتائب تقوم بعمليات وتتبنى المسؤولية عنها. هل تعرف هذا الشخص؟
- لا. أعرف آخرين من أسرته. وعلى أية حال الشباب دائماً يميلون إلى المغامرة، ومع التجارب يكتسبون خبرة ويعودون إلى الصواب. وكما تلاحظ فإن كثيرين من اليمنيين، من الشمال ومن الجنوب، من السياسيين ومن الشباب، ينطلقون في نظرتهم إلى الأمور من القدرة على الفعل وليس من شرعية هذا الفعل من عدمها. إذا انطلقوا من شرعية هذا الفعل من عدمها فإن أحكامهم بالتأكيد ستكون صحيحة. أما إذا انطلقوا من مبدأ القدرة على الفعل بصرف النظر عن شرعية هذا الفعل من عدمها، فإن أحكامهم ستكون خاطئة.
أفهم من كلامك إمكانية ظهور تعبيرات على هامش الحراك، وليس في جوهره، تمارس العنف. وهذه التعبيرات قد تشكل مدخلاً للسلطة لممارسة المزيد من العنف ضد الحراك؟
- هذا صحيح، وهو يعتمد على قدرة الحراك على إقناع (هؤلاء) بالنضال السلمي باعتباره الأسلوب الصائب.
وأنت تنصح قيادات الحراك بإقناع هؤلاء؟
- بالتأكيد. وبالنسبة لطاهر طماح فإنه ينبغي الجلوس معه ومناقشته، وأنا واثق من أنه سيقتنع.
ربما، ولكن الرجل، كما يظهر من تصريحاته، على قناعة راسخة باللجوء إلى القوة. وهو يكرَّر بأن النضال السلمي غير مجدٍ في مواجهة السلطة، التي تمارس العنف ضد الاحتجاجات السلمية، ويضيف قائلاً بأن الاحتجاجات السلمية لم تثمر شيئاً على مدى عامين. أقصد أنه متشبع بفكرته في المقاومة المسلحة.
- إذا جلس مع نفسه وقارن بين الحراك في الماضي والآن، وقارن بين موقف السلطة في الماضي وموقفها الآن، لرأى أن الأمور تتقدم لصالح الحراك.
لننتقل إلى مطلب فك الارتباط. في السياسة وفي القانون الدولي والعلاقات الدولية لا يوجد شيء اسمه "فك ارتباط"، وتعرف أن فك الارتباط هو مفهوم عسكري اشتهر بعد حرب أكتوبر 1973، عندما اعتمد هنرى كيسنجر مبدأ الخطوة خطوة، بادئاً بفك الارتباط بين القوات المصرية والإسرائيلية على جانبي قناة السويس. من أين جاء هذا الشعار؟
- أعلن الأخ علي سالم البيض في 21 مايو 1994 فك الارتباط بين الشمال والجنوب، وهو ما يزال متمسكاً به. ولكن مهما يكن فإن الشيء الذي لا تستطيع السلطة ولا نستطيع نحن الهروب منه هو: الشرعية الدولية أو الشرعية الشعبية. ما عدا هذا هو رغبات سياسية لسياسيين جنوبيين ولسياسيين في الشمال (في السلطة)، وأقصد إما أن تقبل صنعاء بالحوار على أساس قراري مجلس الأمن الدولي باعتبارهما قرارين للشرعية الدولية، وإما أن تقبل باستفتاء الشعب في الجنوب على قبول هذا الوضع أو رفضه. هذا هو الحل الذي لا تستطيع السلطة ولا يستطيع الجنوبيون أن يأتوا بغيره إلا في حالة واحدة، هي انهيار الدولة وصوملة اليمن.
وهذا ما لا يتمناه أحد.
- نعم، ولكن مهما راوح الناس ومهما تشنجوا فإنهم سيعودون إلى ما قلته أعلاه لأنها لا توجد شرعية لأي من الطرفين إلا بذلك.
أين تضع "فك الارتباط"، إذْ لا محل له في الشرعية الدولية، لأن قرارات مجلس الأمن تطالب طرفي الأزمة والحرب حينها (1994) بوقف العمليات الحربية والعودة إلى الحوار على أساس الدولة اليمنية الواحدة.
- قرارا مجلس الأمن الدولي يقولان بالحوار بين الشمال والجنوب. فلا وحدة بالقوة ولا انفصال بالقوة. أما فك الارتباط فأنا شخصياً ليس لدي وضوح حول هذا المفهوم. أفهم أن "فك الارتباط" أو "الانفصال" هو اعتراف ضمني بوجود "وحدة"، وعندي أن الوحدة ليست موجودة أصلاً.
في الشرعية الدولية هناك قراران يتعلقان بأزمة داخل دولة واحدة، والقراران يدعوان إلى وقف الحرب والعودة إلى التفاوض، والحكومة اليمنية وجهت يوم 7 يوليو مذكرة إلى مجلس الأمن تتضمن التزامات الطرف المنتصر في الحرب، وأبرزها معالجة آثار الحرب وتطبيق وثيقة العهد والاتفاق. هذه هي الشرعية الدولية في نظري.
- الشرعية الدولية هي المشار إليها أعلاه، وهناك الشرعية الشعبية. مثلاً تستطيع السلطة أن تقول صحيح هناك قرارات للشرعية الدولية وهناك التزامات، لكن الشعب في الجنوب مقتنع بالوضع القائم. السلطة تستطيع أن تقول هذا الكلام. ونحن نستطيع أن نقول الاستفتاء هو الحكم.
لكنها في هذه الحالة قد تتورط في مسار غير مضمون.
- باسماً - من حقها أن تقول هذا، لكن من حقنا أن نقول نحن إذن لنعمل استفتاء.
لنناقش فكرة الاستفتاء، تعرف أن أي دولة تشهد هجرة داخلية، بصرف النظر عن القول بأنها مخططة أو غير مخططة. بعد 20 سنة من قيام دولة الوحدة، هناك جنوبيون انتقلوا إلى الشمال، وهناك شماليون أكثر انتقلوا إلى الجنوب لأسباب اقتصادية، علاوة على الألوية العسكرية والقوى الأمنية، والاشتباه بوجود خطة للسلطة لتغيير خارطة السكان، وبافتراض أن السلطة تعاطت حبوباً مهدئة وقررت في لحظة تسامٍ قبول فكرة الاستفتاء. من سيُدعى في الجنوب إلى الاستفتاء؟
- هذه وظيفة الحوار، لأن الأمر يتطلب حواراً، وهذه من مفرداته.
أقصد أن المسألة شائكة وشديدة التعقيد والحساسية.
- كل قضية لها حل. وعندما تتطور الأمور إلى هذه النقطة يمكن إيجاد حل لها عبر الحوار. ومع ذلك فإن تحكيم العقل قد يحول دون الوصول إلى هذه النقطة. إذا حكم الإخوة في الشمال، سلطة ومعارضة، عقولهم وتساءلوا: هل الكراهية تزداد أم تقل بين سكان الشمال وسكان الجنوب؟ ولو فكروا بهذا التفكير لما تركوا الأمور تستفحل، ولسارعوا إلى حل القضية. المسألة منطقية، عندما تتابع مشكلة أو قضية عليك أن تقرأ تفاعلاتها، هل تزداد تعقيداً أو تتراجع.
من الواضح أنها تزداد تعقيداً سنة تلو سنة، ويوماً تلو يوم، كما هو حاصل مؤخراً.
- طيب، لماذا تسكت عليها؟
هذه فعلاً مشكلة السلطة في التعامل مع القضية الجنوبية، لكن المعارضة بدت...
- مقاطعاً - رابخة.
المعارضة، كما أرى، تقترب من القضية الجنوبية، بل وصارت تتبناها وتطالب السلطة بالاعتراف بها، رغم أنها إلى ما قبل عام ونصف كانت هي ذاتها تتجنب عنوان "القضية الجنوبية" في بياناتها.
- تحسن موقفها قليلاً، ولكن عليها واجباً أكبر.
في ما يخص "فك الارتباط"، هل تعتقد أن هذا العنوان يمكن أن يوحد الجنوبيين حوله؟
- الشعب في الجنوب أكثر التفافاً حول مطلب "استعادة دولة الجنوب"، عامة الناس يريدون هذا، لكن السياسيين عليهم أن يتعاملوا بوعي مع هذه القضية. إذا صنعاء ترفض الاعتراف بالقضية الجنوبية، وبالتالي ترفض أي معالجة لها، ماذا تنتظر من السياسيين الجنوبيين أن يقولوا أمام الشعب الجنوبي؟ أنا شخصياً ليس مفهوماً عندي بالضبط مسألة "فك ارتباط" أو "انفصال"، لأن هذين المطلبين ينطويان على اعتراف ضمني بوحدة قائمة، وأنا لا أرى أن القائم هو وحدة.
الآن، ولكنك إلى وقت قريب كنت تقول إن الوحدة قائمة ولكن مسارها أخذ اتجاهاً آخر بالحرب.
- هذا كان سابقاً قبل نهب الأرض والثروة، لكن بعد أن تم نهب الأرض والثروة ماذا بقي للجنوبيين. إذا لم تُعد الأراضي والثروات المنهوبة فما الفائدة من أي حل. فلابد أن يعود كل ما نهب منذ ما بعد حرب 1994 وحتى الآن، أراض زراعية وعقارات وثروات وغيرها.
هناك حديث يجري عن عقد سياسي جديد يضم مختلف الأطراف اليمنية بما فيها الجنوبيون..
- أي حل بدون ضمانات دولية ليس مضموناً، لأنها وجدت اتفاقيات، مثل اتفاق الوحدة ودستور دولة الوحدة، وهو اتفاق يمني داخلي تم الانقلاب عليه بالحرب، ومن دلائل ذلك العملة الوطنية الآن هي الريال الشمالي، بينما اتفاقية الوحدة تقول بأن تكون العملة هي الدرهم كبديل للدينار الجنوبي والريال الشمالي. الإدارة الآن شمالية، وكذلك القضاء والمناهج التعليمية، تم الانقلاب على هذا كله. ثم جاءت وثيقة العهد والاتفاق التي تم التوقيع عليها في الأردن، وانقلبوا عليها بالحرب، وأخيراً جاءت اتفاقية الدوحة (بين الحكومة والحوثيين)، وتم الانقلاب عليها أيضاً. لا يوجد ضمان إلا بإشراف دولي قادر على الفعل.
لنتحدث عن البيئة الإقليمية، ألا تنتابك مخاوف من أن يتحول "الحراك الجنوبي" إلى ورقة إقليمية في ظل الاستقطاب الإقليمي الراهن؟
- السلطة من يملك القرار السياسي في اليمن. ومن يملك القرار بيده أن يمنع أن يكون بلده ساحة صراع إقليمي ودولي، ويمكن أن يقدمه على طبق من ذهب لهذا الصراع، تماماً كما فعل صدام حسين في العراق، ومثلما فعلت طالبان في أفغانستان.
ألديك مخاوف من أن يتم توظيف الحراك من قبل أطراف إقليمية أو أطراف لها حسابات في الإقليم؟
- لا. الحراك الجنوبي متنبه للعبة الخارجية. وأنا واثق أن الحراك لن يكون بيد طرف خارجي. ومع ذلك فإن العامل الحاسم هو موقف السلطة التي بإمكانها تجنيب البلد ذلك. الرئيس. للأسف، قال أمس في مقابلة مع قناة "إم.بي.سي" أنا ضمنت دول الخليج والمجتمع الدولي في ما يخص قضية الجنوب. ماذا يعني هذا؟ ألا يعني تقديم البلد للصراعات الدولية؟
يعني أنه قام بجهد دبلوماسي متواصل لضمان وقوف هذه الأطراف في صف الوحدة.
- تجاه من؟
تجاه من يصفهم بأنهم حفنة من المتآمرين والانفصاليين، وأصحاب المصالح التي فقدوها في حرب 1994.
- ضاحكاً - مئات الآلاف الذين يخرجون في الشارع، ما هي المصالح التي فقدوها؟
تعلم أنه إلى وقت قريب كان هناك شكوك لدى السلطة ودوائر أخرى من وجود دعم من بعض دول الجوار للحراك، خصوصاً وأن بعض هذه الدول كان له موقف داعم لعلي سالم البيض في حرب 1994 عندما أعلن الانفصال، والآن فإن هناك استرخاء لدى الرئيس بعد أن تأكد بأن هذه الدول تدعم الوحدة.
- وبعد أن ضمن هذا ما الذي تغير في الساحة الجنوبية؟ الحراك مستمر والمعاناة مستمرة، وفقط يوجد تعتيم إعلامي.
ما أقصده أن الرئيس أمَّن الفاعل الإقليمي والفاعل الدولي، وصار بوسعه الآن أن يتعامل من موقع أفضل مع القضية الجنوبية خلاف ما كان الحال عليه قبل عدة أشهر.
- من الخطأ أن يصدر هذا الكلام من شخص مسؤول عن البلد كله، أن يقول أنا أمنت الخارج وأما الداخل فلا يعنيني أمره، هذا كلام ليس ملائماً أن يصدر من رئيس دولة. ولو افترضنا أنه أمَّن فعلاً هذه الأطراف فهل حُلت القضية؟
الرئيس يقر بوجود غضب لدى فئات في الجنوب، ويقول بوجود مظالم وقعت على البعض في الجنوب، لكنه يؤكد أن المساس بالوحدة اليمنية خط أحمر، وأن الأغلبية الساحقة من الجنوبيين مع الوحدة، وأنه ليس من حق أحد الادعاء بأنه يمثل الجنوب، وأنه ضمن مواقف دول الخليج والغرب لصالح الوحدة ضد حفنة من المتآمرين على شق وحدة البلد.
- الوحدة لا تعني نهب الأرض وحرمان الناس من ثرواتهم. وما دام الظلم والقهر موجودين فإنه حتى إذا ضمن الخارج فإن المشكلة ستظل قائمة، والمؤكد أن القضية ستتعقد أكثر إذا لم تُحل الآن.
في تقديرك أن هذا الموقف الإقليمي المؤمن أمر واقع فعلاً؟
- الرئيس من يقول هذا.
في حال أنه قائم فعلاً هل ترجح أن يستمر؟
- الحراك يراهن على ذاته وعلى الشعب. وصدقني أن المواطنين (في الجنوب) يبيعون أغنامهم كي يتمكنوا من المشاركة في فعاليات الحراك، ومن ليس لديه أغنام أو مواشي يبيع كيس قمح أو أي شيء بحوزته بأقل من سعره لكي يشارك في الحراك. الأجهزة الأمنية تدرك هذا، ويفترض أن توصل معلومات دقيقة للرئيس.
بصرف النظر عن هذا، وأنا فعلاً اطلعت على حالات من هذا القبيل، ولكن أي حركة احتجاجات أو حتى حركة تحرر أو انفصال ليس بوسعها إلا أن تراهن على تأييد خارجي، إقليمي أو دولي.
- كمواقف سياسية.
كمواقف سياسية في الوقت الراهن. وسؤالي هو عن تقديرك أنت كشخصية، لديها اتصالات وعلاقات في الداخل والخارج، لدقة ما يقوله الرئيس علي عبدالله صالح بشأن الموقف الإقليمي؟
- لا أعرف بالضبط مدى دقته، صحيح أو غير صحيح، لكن من المنطقي أن دول الجوار تريد استقراراً في اليمن، لأن عدم الاستقرار ضار بأمنها القومي. لكنها تدرك أن الاستقرار رهن بالرضا الشعبي، ولذلك لا أعتقد أنها ستساعد (الرئيس) علي عبدالله صالح على استمرار عدم الرضا الشعبي وقهر الناس.
لعلك تتفق معي بأن هناك قلقاً لدى البعض في السلطة حيال الدور البريطاني في اليمن في ما يخص الجنوب، خلاف الأمر حيال واشنطن وعواصم غربية أخرى، وهذا القلق لا يتم التعبير عنه رسمياً، ولكن يدور في بعض المجالس، وأحياناً يعبر عنه في منابر إعلامية محسوبة على السلطة أو أطراف فيها، كيف تقرأ هذا القلق؟
- الأمريكان والأوروبيون وغيرهم لديهم مصالح في اليمن، وهذه المصالح يتم ضمانها بوجود استقرار، والاستقرار مرهون برضا الناس. ولهذا لا أعتقد أنهم يقرون ما يُمارس من تجاهل لمصالح الناس أو قهر فئات منهم لأن ذلك يؤدي إلى عدم الاستقرار. والذي أعتقده أن دول الجوار والدول الكبرى مجمعون على أن الوضع في اليمن غير طبيعي، وأن النظام غير صالح، ولابد من وجود نظام بديل صالح للبلد. ومع هذا فإن السلطة وعبر قنوات استخبارية مع دول الجوار والغرب قد تصدق ذلك، وتصَّور أن رحيل الرئيس علي عبدالله صالح سيؤدي إلى صوملة اليمن. والغرب يفضل الوضع الموجود على الصوملة.
وحتى اليمنيون يفضلون هذا.
- صحيح. لكن إذا صح ما تروجه السلطة للخارج من أن الصوملة هي البديل، فإننا نبدو وكأننا في طائرة مختطفة إذا لم يقبل الخارج شروط الخاطفين فإنهم سيفجرونها.
ورغم هذا فإن لبريطانيا خصوصية هنا، لأن لها إرثاً في الجنوب باعتبارها الدولة التي احتلته قرابة قرن وثلث، فما الذي يمنع من أن يكون لها مقاربة متمايزة عن واشنطن تجاه الجنوب؟
- هذا كان محتملاً في رئاسة بوش الابن، لكن في عهد أوباما والديمقراطيين فأنا أستبعد ذلك، لأن تجربة الأمريكان في العراق وأفغانستان، وحتى في فلسطين، أكدت لهم أنهم في حاجة إلى مشورة بريطانيا، ويمكن أن أقول بتحفظ بأن الدور القيادي في الشرق الأوسط كأنه صار لبريطانيا. وعندما تشعر واشنطن أنها محتاجة للدور الأوروبي في المنطقة، فإنها لن تثق بحليف أكثر من بريطانيا.
ومع ذلك ألا تلمس قلقاً هنا من بريطانيا؟
- هذا القلق يعود إلى كون بريطانيا دولة احتلت الجنوب. وما أستطيع تأكيده هو أن علاقات أطراف في السلطة وأطراف في المعارضة ببريطانيا أوثق من علاقة جنوبيين بها. ومن البديهي أنه عندما تسلم سلطة قرارها لأطراف دولية أو إقليمية فإنها ستعرض نفسها لحركة أطراف أخرى نقيضة.
عند هذه النقطة كيف يمكن قراءة تصريحات علي سالم البيض لجريدة "الأخبار"، فهو أشاد بلغة ودية مؤثرة بإيران وحزب الله وقطر. هل يمكن أن تتعامل هذه القوى مع البيض في مقابل حركة الرئيس علي عبدالله صالح باتجاه بعض دول الجوار والغرب؟
- الجنوبيون يجمعهم اتجاه واحد حتى وإن أبدى بعض الإخوة موقفاً مختلفاً، وهو اتجاه القضية الجنوبية. وفي ما يخص الوضع الإقليمي فإن هناك متغيرات طرأت عليه بعد مجيء أوباما. في رئاسة بوش الابن كان هناك تقسيم لدول المنطقة يقوم على أساس دول اعتدال، وهي أقرب إلى واشنطن، ودول ممانعة أقرب إلى الاتحاد الأوروبي. جاء أوباما وهو غير مشبع بفكرة زعامة أميركا للعالم التي كانت عند بوش وفريقه، واختلف الأمر.
أوباما يريد أيضاً زعامة العالم ولكن بأسلوب ناعم وعبر مجلس إدارة الرئاسة فيه لواشنطن.
- نعم، ولكن بالشراكة مع أوروبا، واحترام مصالحها. من يدير العالم الآن هو أميركا وأوروبا، وبقية العالم في الهامش. وبعد مجيء الديمقراطيين إلى البيت الأبيض بدأ الأمر ينعكس على دول المنطقة، وبدأت دول الممانعة ودول الاعتدال تتقارب طبقاً لمقاربة المركز (الأوروبي والأميركي).
وكيف برأيك سينعكس هذا التغيير على الوضع في اليمن، وبخاصة في ما يخص الجنوب؟
- النظام في اليمن يتعاطى مع هذه الأمور بسطحية، يحاول اللعب على التناقضات، واللعب هنا خطر جداً وفوق طاقة أي نظام عربي. والتناقضات بين القوى الكبرى لا ترحم، لاحظ ما حدث لجمال عبدالناصر، وكذلك ما حصل لصدام حسين الذي انحاز إلى فرنسا وأوروبا واستبدل الدولار باليورو. اللعب على تناقضات الدول الكبرى هو انتحار. أصحابنا هنا يلعبون هذه اللعبة، وسوف يأخذون البلد إلى الهاوية.
لنناقش الآن الحزب الاشتراكي ومؤتمره العام. عندما عرض عليك الرئيس بعد الوحدة ترك الاشتراكي والانضمام إلى المؤتمر، أجبته بأنه إذا بقي في الاشتراكي شخص واحد فقط فسيكون أنت. أما زال هذا الموقف قائماً الآن؟
- شخصياً، وأظن أن هناك كثيرين مثلي، لا يوجد ما يبرر لنا الانتقال إلى حزب آخر غير الحراك. وكل ما نتمناه هو أن يستعيد الحزب الاشتراكي مكانته ويتبنى القضية الجنوبية بوضوح وينضم بالكامل إلى الحراك. الاشتراكي هو المسؤول تاريخياً عن القضية الجنوبية، ويفترض به أن يتميز عن الأحزاب الأخرى في موقفه تجاه هذه القضية بالذات. في دورة اللجنة المركزية الأخيرة التي عقدت في عدن كنا نتمنى أن يخرج الحزب بموقف واضح يختلف عن مواقفه السابقة، لكن للأسف لم يتم ذلك، فحصل انفعال لدى بعض أعضاء اللجنة المركزية، وفي مقدمتهم الأخ العزيز عبدالرحمن الوالي، وأعلنوا تشكيل حزب الأحرار الجنوبيين. والحق أن أعضاء اللجنة المركزية من الشمال، خلال تلك الدورة، قالوا بوضوح لزملائهم الجنوبيين وللأمين العام إنهم مع أي موقف يرونه بخصوص الجنوب، لكن الإخوان الجنوبيين، وأنا متأكد أنهم جميعاً مع الحراك، خشوا أن يعلنوا موقفهم حفاظاً على أواصر علاقتهم ببعض إخوانهم الشماليين.
رغم أن هؤلاء تحدثوا بوضوح معهم بأنهم مع الرأي الذي يأخذونه؟
- نعم، قالوا لهم أي شيء ترونه سنكون معكم. في السياسة لا توجد عواطف. وكان يفترض بأعضاء اللجنة المركزية الجنوبيين أن يتخذوا موقفاً واضحاً، أنا لم أحضر سوى جلسة مسائية؛ فقد غادرت بسبب عدم قدرتي على تحمل الدخان، لكنني التقيت بأغلب أعضاء اللجنة المركزية الجنوبيين في بيتي في عدن، واتفقنا على ورقة نقدمها للجنة المركزية، تتضمن موقفاً مشرفاً للحزب، يتدارك هفوات الماضي، وتم التوقيع عليها من الموجودين.
كم عدد الجنوبيين في اللجنة المركزية؟ وأسألك لغرض التمييز إجرائياً فقط.
- لم يحضر جميعهم، وبعضهم كان مطارداً من الأمن أو في السجن.
أقصد في القوام الكامل وليس قوام دورة عدن.
- تقريباً نصف العدد.
أليست الأغلبية شمالية، علماً أنني واثق بأن هناك شماليين أكثر تأييداً للحراك من جنوبيين؟
- في اللجنة المركزية قد تكون هناك زيادة طفيفة للأعضاء من الشمال، لكن الأكثرية في المكتب السياسي والأمانة العامة هي لأعضاء من الشمال. ونحن في الحزب بالتأكيد لا ننظر إلى الأمر من هذه الزاوية. وعلى أية حال فإن الموقعين على الورقة ذهبوا إلى اللجنة المركزية وطلبوا إدراجها في جدول الأعمال، لكن الأمين العام رفض الطلب.
لماذا برأيك رغم حساسية اللحظة التي يمر بها الحزب؟
- لا أدري. وفي نهاية المطاف تمت الموافقة على تلاوة الورقة فقط. وعندما تم ذلك لم يعترض أحد على مضامينها كأنهم موافقون عليها، لكن تم تجاهل الورقة تماماً في البيان الختامي وقرارات الدورة، وهذا ولَّد رد فعل لدى الإخوان الذين خرجوا وعقدوا اجتماعاً. زارني بعضهم وقلت لهم لا داعي لأي ردود فعل الآن، يمكن أن نصدر بياناً نوضح فيه موقفنا.
يمكن عزو موقفك هذا إلى خبرتك في التعاطي مع أزمات كهذه، فضلاً على أن وجدانك تشكل داخل الحزب، لكن ما حدث أن آخرين أعلنوا أنهم سيشكلون حزباً اشتراكياً (أو حزباً آخر) جنوبياً، ويبدو لي أن هذا المسار توقف.
- عندما جاؤوا إليَّ نصحتهم بالتخلي عن الفكرة، ولكنهم أصروا، فقلت لهم رد الفعل هذا خطأ، وستدركون لاحقاً ذلك.
هم لا يزالون داخل الحزب الاشتراكي؟
- نعم. والعمل الأجدى كان أن تبادر منظمات الحزب في الجنوب إلى التنسيق مع بقية منظمات اللقاء المشترك، ويشكلون مجلس تنسيق أو لقاء مشتركاً جنوبياً، يتولى اتخاذ المواقف والقرارات وفقاً لاحتياجات ومطالب السكان الذين يمثلونهم.
تعلم أن المركز (في صنعاء) هو المهيمن على القرار الحزبي خصوصاً في القضايا الكبرى مثل القضية الجنوبية.
- لذلك فإن هؤلاء الموجودين في المركز يدفعون الناس إلى مغادرة الأحزاب.
بعد دورة عدن هل التقيت الدكتور ياسين سعيد نعمان؟
- لا. فظرفي الصحي يقيد حركتي، وهو كان مشغولاً، وربما غير راغب في ذلك.
موقف الدكتور ياسين واضح في ما يخص القضية الجنوبية، إذ إنه يشدَّد على حل هذه القضية قبل أي أمر آخر. وفي أغسطس 2008 عطَّل الاتفاق بين المشترك والسلطة على الانتخابات، لأنه ضد إجرائها قبل معالجة القضية الجنوبية.
- من دون شك يوجد قرب.
وإذن، أتجري اتصالات بينكم لتدارك التداعيات سواء في ما يخص الحزب الاشتراكي أو في ما يخص الانقسامات والتشظيات التي من الممكن أن تحدث داخل الحراك؟
- هناك شكوك موجودة لدى كثيرين من الإخوان لا أجد تفسيراً لها، وأيضاً هناك الكبرياء الموجودة لدينا في اليمن، والذاتية.
الكبرياء أسوأ مستشار، كما يقول المثل.
- صحيح. قد أكون مخطئاً وليس عيباً أن أتراجع عن خطئي وأقول لك رأيك هو الصائب.
هل جاء أحد من رفاقك في قيادة الحزب، بخاصة من أولئك الذين كان لهم موقف حاد منك، وقال لك كان تقديرنا خطأ ولم نكن لنتصور أن تذهب الأمور بعيداً؟
- لم يحصل هذا ولا أريده. الماضي ماض، وما أريده هو أن نعد للمستقبل. الوحيد الذي جاءني وقال لي هذا هو الأخ يحيى الشامي، وسمعت أن آخرين مثل يحيى أبو أصبع الأمين العام المساعد- يقولون كلاماً مماثلاً.
أردت فقط هنا أن يقرأ القراء هنا العلاقات الإنسانية داخل قيادة الحزب الاشتراكي.
- أنا لا أريد هذا لأن المسائل تتحول إلى مسائل شخصية.
تجري تحضيرات لعقد المؤتمر العام السادس للحزب الاشتراكي، أين موقعك من هذه التحضيرات؟
- ليس من المعقول عقد المؤتمر في هذه الظروف، وهناك أسباب عديدة أولها أن جزءاً من كوادر الحزب الفاعلة لا تستطيع المشاركة، وهناك البعض في السجون، والبعض مطارد في الجبال، وثانياً أن الوضع السياسي في البلد لا يتيح عقد المؤتمر، وإذا انعقد فإنه سيكون باهتاً وقد يتولد عنه أزمة أخطر على الحزب، وثالثاً أن الناس منشغلون بقضايا كبيرة وخطيرة، وقد يؤدي هذا إلى انقسام داخل الحزب. ليس عيباً أن تؤجل اللجنة المركزية موعد انعقاد المؤتمر، فالنظام الداخلي يسمح لها بذلك إذا وجدت ظروف استثنائية.
ولماذا لا يتم ذلك؟
- البعض يستعجل انعقاد المؤتمر لكي يغادر موقعه القيادي من بوابة المؤتمر العام. وهناك من وصل إلى قناعة مؤداها أن الحزب يقترب من النهاية ولا يريد أن يتحمل مسؤولية تاريخية عن ذلك كي لا يقال إن الحزب انتهى على يده. وهذا الهاجس أمره هين، يمكن للجنة المركزية أن تجتمع ويقدم المكتب السياسي استقالته لها، لأنه منتخب منها وليس من المؤتمر العام، واللجنة المركزية تشكِّل مكتباً سياسياً جديداً وأميناً عاماً جديداً.
لكنك تتذكر أن الدكتور ياسين كان قبل عامين قد طلب إعفاءه من موقع الأمين العام، مقترحاً تدوير هذا الموقع خلال دورة اللجنة المركزية، فرفضت اللجنة المركزية، وأظنك كنت في لندن للعلاج.
- كنت موجوداً هنا، وكنت أول من رفض الاستقالة. رغم أن البعض يعتقد أنني سأرحب بها نظراً للاختلاف بيننا في بعض الآراء.
وأظن الآن أن الغالبية في المكتب السياسي تتجه لصرف النظر عن الموعد المفترض لعقد المؤتمر في نوفمبر المقبل؟
- أنا شخصياً أعتقد أن عقد المؤتمر الآن هو سلوك انتحاري للأسباب التي ذكرتها، وأضيف عليها سبباً آخر هو الموقف من قيادات الخارج، هل سينتخبونهم؟
تماماً كما حصل في المؤتمرين السابقين؟
- نعم، هل سينتخبونهم أم سيشطبونهم. فإذا انتخبوهم كيف، وإذا استبعدوهم كيف؟
علي سالم البيض لم يعد يقدم نفسه كقيادي في الحزب بل كشخصية "وطنية جنوبية".
- ومن هنا فإنه قد يرفض إعادة انتخابه وتكون النتيجة نفسها.
أفهم من كلامك أنك متفائل بأن يكون للحزب الاشتراكي كلمة في مستقبل الجنوب أو اليمن عموماً، كما كان في الماضي؟
- يستطيع الحزب أن يستعيد فاعليته ويتلافى الأمور إذا ارتقى الإخوان إلى مستوى المسؤولية في التعاطي مع الأحداث الجارية ومع القضية الجنوبية. ما الذي يخيفهم، حتى وإن كان لهم رأي متفرد (عن المشترك) في ما يتعلق بالقضية الجنوبية، فهذه القضية قضية وجود بالنسبة له، لأن الإصلاح شريك في الحرب على الجنوب.
من الواضح أنك متمسك بانتمائك للاشتراكي، وما تزال تراهن أن يتعافى الحزب وتعود إليه الحيوية إذا تدارك أخطاءه السابقة، ألا يؤثر هذا سلباً على موقعك في الحراك، خصوصاً مع تعالي أصوات في الجنوب تطالب بإقصاء الاشتراكي؟
- قد يسبب إشكالاً عند بعض الأشخاص، لكنه إشكال مؤقت، وسيكتشفون (لاحقاً) أن موقفي هو الصحيح. هناك أمور يصعب الحديث عنها الآن رغم أنها قد تكون مقنعة لأصحاب الرأي القائل بالخروج من الحزب.
كيف؟
- هناك أشياء يمكن أن تقنع المعارضين للبقاء في الحزب بأن البقاء هو الأسلم. ولكن هذا الإقناع يمكن أن يؤثر بشكل سلبي على آخرين لأنهم غير قادرين على استيعاب تطورات قادمة.
تقصد يؤثر سلباً على الموجودين من أبناء المحافظات الجنوبية في الحزب؟
- نعم. الحزب الاشتراكي حزب معترف به من قبل السلطة والخارج، وحامل صيغة الجنوب، وقاد دولة الجنوب، ووجوده مع القضية الجنوبية هو بالتأكيد لصالحها، وإبعاده عنها يشكل خصماً منها. بعض الإخوة يرون أن الاشتراكي هو المشكلة ويجب التخلص منه بسبب عقدة أن يعود الاشتراكي ليحكم الجنوب مجدداً بعد كل هذه التضحيات، وهذا غير ممكن في الواقع، فالوضع تغير والقيم تغيرت. أنا لم أتمكن من الجلوس مع هؤلاء الذين هم ضد بقاء الناس في الحزب، لمناقشة الموضوع معهم من زاوية مصلحة القضية.
تشدِّد دوماً على أن مشكلة الجنوبيين ليست في السلطة ولكن في "دولة الوحدة" ذاتها التي تصفها بـ"دولة الشمال".
- نعم، هناك بديهيات تم تجاهلها. هل يعقل أن يظل الجنوب مؤمماً، والملكية فيه للدولة في حين أن نمط الملكية مختلف في الشمال؟ كان المفروض إلغاء قوانين التأميم في الجنوب وإعادة تمليكها لأهلها. كما أن الاقتصاد في الجنوب كان عاماً في حين أنه في الشمال خاص، وغير ذلك من البديهيات التي تم تجاهلها.
قبل الوحدة وجد قطاع عام في الشمال فالنظام كان مختلطاً.
- حتى العام كان خاصاً في الشمال (ضحك). كيف يمكن أن يكون وضع الوحدة طبيعياً في ظل وجود هذا؟
تمت خصخصة كثير من المؤسسات العامة في الجنوب.
- متى؟
بعد حرب 1994.
- ولصالح من؟
لصالح الاقتصاد الوطني.
- ضاحكاً - لصالح المتنفذين. التركيبة الاجتماعية كانت مختلفة في الجنوب، بسبب نمط الملكية فلم يكن هناك أغنياء كما هو الوضع في الشمال، وهذا لا يسمح بوحدة بينهما أصلاً.
صحيح. ودعنا لا ننسى أن هناك من الجنوبيين من صار ثرياً بعد 1994. وعلى أية حال فإنه إذا أخذنا معدلات الفقر على مستوى المحافظات في اليمن، فإن المحافظات الأفقر هي في غالبها شمالية.
- ممكن هذا. والفرق أن المظلومين في الشمال مظلومون من دولتهم، بينما الظلم في الجنوب يتم باسم الوحدة. وطالما والسبب مختلف، فإنه من البديهي أن يكون الحل مختلفاً.
أنا أفهم ما تقصده عندما تقول مثلاً إن الشمال استفاد من الخصخصة والجنوب لم يستفد، لكن ما يؤخذ على خطاب البعض هو ذلك التعميم عن الشماليين والجنوبيين، بعد الحرب كثيرون من أبناء الشمال استفادوا ولكن ليسوا جميعهم، وهناك من الجنوبيين أيضاً من استفاد من الحرب، بل ومنهم من مارس الفيد واستولى على ممتلكات آخرين، والآن هم من كبار الملاك.
- لا أتحدث الآن عن أوضاع ما بعد الحرب، وإنما عما قبلها. هناك أشياء غير مكتوبة ولكنها بديهيات، كان مفروضاً إلغاء قوانين التأميم وعودة الملكيات لأهلها، وتمليك الجنوبيين لأرضهم وثروتهم، وأن يعاد تصميم النظام الاقتصادي وتحويله من العام إلى الخاص لصالح الجنوبيين أنفسهم، فالنظام السابق في الجنوب عندما اعتمد الاقتصاد العام وأمم أملاكهم وثروتهم على أساس أن تكون الدولة مسؤولة عن كامل شؤون حياتهم، وبعد إعلان الوحدة اختلف الأمر رغم أنها أعلنت الوحدة على أساس الأخذ بالأفضل. أنا كنت رئيس لجنة... في المرحلة الانتقالية بعد الوحدة، وجدت أنه لا يوجد في الشمال ما هو أفضل إلا الموقف من الملكية الخاصة والدين، ولا يوجد في الجنوب ما هو أسوأ غير هذين الموقفين فقط. هذا ربما كان بداية المشكلة، لأن الإخوة في الشمال رأوا كل شيء كان أفضل في الجنوب باستثناء الموقف من الدين والموقف من الملكية الخاصة، ولذلك ماطلوا في قيام دولة الوحدة حتى قاموا بالحرب.
ماذا تريد أن تستخلص من هذا؟
- أريد أن أقول إن الوحدة ليست موجودة. وهناك أيضاً التباين الثقافي، وكما ذكرت في الجزء الأول فإن الجنوب لا يستطيع العيش إلا في ظل دولة، وشمال الشمال لا يستطيع العيش في ظل دولة.
عند هذه النقطة، لعلك قرأت لهارولد انجرامز مستشار الدولة القعيطية والحاكم السياسي لعدن، وصاحب الاتصالات المهمة بالإمام يحيى حميد الدين، وهو أيضاً مستشرق مهم، ففي كتاب له صدر عام 1963 أبدى تذمرا شديداً من بعض المناطق في الجنوب لأن سكانها يمارسون التقطع ولا يميلون إلى الاستقرار والعمل خلاف المناطق التي زارها في الشمال، وبخاصة مناطق تهامة وإب وتعز، حيث ينعم الناس بالأمن والاستقرار ويميلون إلى العمل.
- هو كان في حضرموت؟
وعمل أيضاً في عدن، وكان له اتصالات بالإمام يحيى، وأظن أيضاً مع الإمام أحمد. وحتى حضرموت نفسها كان فيها قبائل لا تقبل الدولة.
- المدنية رسختها بريطانيا في عدن وحضرموت، وجاءت الثورة وعممتها على الريف. لم نعممها بخطبة جامع، بل بفرض القانون. صحيح أن هناك قسوة ولكن في سبيل تغيير اجتماعي، بينما الثورة في الشمال على عكس ذلك تماماً.
ما أريد الإشارة إليه أن انجرامز قدم صورة مغايرة للصورة النمطية السائدة عن الشمال في الجنوب، ولدى الكثير من النخب في الشمال والجنوب. والمعنى هنا أن المسألة متصلة بالسياق السياسي والاجتماعي لأي شعب. في عهد الرئيس إبراهيم الحمدي، وكنت طفلاً حينها، حمل السلاح في المدن لم يكن محبذاً بل منبوذ، والحركة التعاونية في السبعينيات كانت مزدهرة، حتى إن مواطنين كانوا يعملون طوعياً في بناء مدارس ومستوصفات، ويتبرعون بأراضيهم من أجل شق طرق تصل إلى أقاصي الأرياف. أي أن السياق السياسي والاجتماعي والثقافي هو ما يجعل الناس راغبين في أن يكونوا داخل الدولة أو خارجها.
- بدون شك. لكن هناك فرقاً بين مجتمع يستجيب، ومجتمع يقاوم.
في عهد الحمدي استجاب المجتمع في الشمال في أغلبه.
- استجاب اليمن الأسفل.
وحتى في مناطق قبلية حصلت استجابة، فالحركة التعاونية مثلاً كانت مزدهرة في همدان وسنحان وغيرهما. المجتمع في أغلبه استجاب باستثناء بعض المناطق في عمق مراكز القوى القبلية. والقصد هنا أن المجتمع اليمني في أغلبيته الساحقة استجاب لمشروع حاكم ينشد إقامة دولة مواطنة ودولة مدنية.
- هذا ممكن في حينه خوفاً من نظام عدن. وأذكر أنني عرفت الحمدي في حرب 1972. التقيت به في مكيراس، وكان عضواً في لجنة تمثل الشمال وأنا في لجنة تمثل الجنوب. في مكيراس خزنا (قات). عند المغرب غادر أعضاء اللجنة الشمالية للصلاة وبقي الحمدي الذي قال لنا: سلموا على الأخ سالم (ربيع علي) وقولوا له لا فائدة ترتجى من الشمال، ولا يمكن أن تصلح وحدة إلا إذا انتهت العمائم والجنابي، لكن في ظل العمائم والجنابي لا يمكن أن يستقر الوضع، ولا يمكن أن تبنى دولة، ولا يمكن للوحدة أن ترى النور.
كيف كان وقع هذا الكلام عليكم؟
- صدقناه. شعرنا أن الرجل صادق. ولاحقاً ذهبنا وكلمنا سالمين. وسالمين ربط خطاً معه منذ ذلك الوقت.
يعني العلاقة بينهما والتنسيق للوحدة بدأ قبل حركة 13 يونيو 1974؟
- نعم، من قبل ذلك.
كانت هناك علاقة بينهما من الستينيات؟
- ليست معه بل مع أخيه عبدالله الحمدي.
من كان حاضراً من الشماليين إلى جانب الحمدي؟
- لم أعد أتذكرهم، ولكن أظن أن عبدالله الراعي كان موجوداً في اللجنة الشمالية.
ومن الجنوبيين؟
- كان معنا عبدالله الخامري وعوض مشبح، وهو حالياً عضو بمجلس الشورى، وآخرون. والمهم أن سالمين ربط خطاً مع الحمدي، وتقوت العلاقة بينهما، ولو كانت الوحدة تحققت في عهدهما لكان الوضع مختلفاً كلية. الحمدي كان متميزاً، وفي لقاء لاحق في صنعاء بين سالمين وآخرين كنت أحدهم، وبين الحمدي الذي كان قد صار رئيساً، ظهر متفتحاً ومثقفاً ومتنوراً، وكان عازماً فعلاً على بناء دولة عصرية. وللأسف فإن الحمدي وسالمين استُهشدا لأنهما كانا جادين في الوحدة، وقد ذهبا ضحية ذلك.
أنت كنت حينها محسوباً على تيار سالمين؟
- أنا كنت من أقرب الناس إليه، وعندما وقعت أحداث يونيو 1978 كنت أدرس في موسكو، وإلا لكنت دخلت السجن أو القبر.
وحسن باعوم أيضاً كان محسوباً على سالمين ودخل السجن؟
- نعم، كان مع سالمين. يعني أن العلاقة بينكما ضاربة في التاريخ؟
- (ضحك).
___________________________________
إنتهت المقابلة