مقال اعجبني ببساطته ولغته البعيدة عن الفلسفة -التي عهدناها من المؤيدين للعلمانية او المعارضين لها- ويجمل فيها الكاتب بحقائق بسيطة وموضوعية عن مدى إستيعاب العلمانية كمبداء للحكم في أي دولة كل اطياف التنوع الديني والثقافي مهما تباينت وجهاتها ما دام الجميع سواسيه أمام الدولة والنظام والقانون الذي ينظم شؤون حياتهم اليومية وعلاقاتهم مع بعضهم البعض ويترك لكل إنسان علاقتة الخاصة مع ربه دون لإقتراب منها.
كنت انتظر نزول المقال منذ الاحد الماضي على موقع صحيفة حديث المدينة حيث أنها وللاسف تؤخر نشر مادتها الصحفية ايام طويلة على موقعها إلى يوم الخميس من كل أسبوع رغم صدور النسخة الورقية يوم الاحد وهو امر غريب ومحسوب سلباً على حديث المدينة وناشرها الصحفي فكري قاسم.
إلى مقال حسين الوادعي بعنون:
الأحد, 9 مايو 2010 م
حسين الوادعي
Huswad1@gmail.com
لماذا هاجر الإسلاميون المضطهدون إلى أوروبا وليس إلى أي دولة من الدول الإسلامية؟
ولماذا أصبحت القاعدة معكوسة عند المسلمين اعتباراً من سبعينيات القرن الماضي،فبدلا من المبدأ الفقهي واسع الانتشار الذي يحض على الهجرة من «دار الكفر» إلى «دار الإسلام»،أصبح المسلمون يهاجرون من البلدان الإسلامية نحو البلدان الغربية (أو دار الكفر حسب المصطلح الفقهي القديم)؟
سؤال هام ربما لم يطرحه الكثيرون على أنفسهم ولو طرحوه لتغيرت الكثير من قناعاتهم حول الإسلام والعلمانية ومواصفات الدولة المثالية.
إننا نسمع الكثير من الكلام حول مادية العلمانية وتغييبها للجانب الروحي وتحويلها للعالم إلى عالم جاف خال من المعنى والمثل العليا. ولكن هل هذا الكلام صحيح؟ هل العلمانية حركة مادية تهمش الروح أم أنها ثورة روحية حقيقية تحرر العقل والفكر والضمير؟.
هذا المقال يناقش العلمانية بين المادية والروحية اعتمادا على تجربة الإسلاميين في أوروبا.
خلال الأربعين عاماً الأخيرة تجمعت في البلدان الأوربية كافة الاتجاهات الإسلامية من إخوان وسلفيين وجهاديين وصوفيين وسنة وشيعة. وقد أتاحت لها العلمانية الأوروبية أن تمارس عباداتها وتبني مؤسساتها وتمارس نشاطها السياسي بمنتهى الحرية. أي أنها حظيت بكافة الحقوق التي كانت محرومة منها في بلدانها الأصلية. ذلك أن اغلب الإسلاميين فروا من بلدانهم بسبب الملاحقات الأمنية التي واجهوها في بلدانهم الأصلية بسبب اتجاهاتهم وتحركاتهم السياسية المناوئة للأنظمة. لكن وضعهم في أوروبا أصبح مختلفاً فالفرصة أصبحت متاحة لهم للدعوة والترويج العلني لمذاهبهم وتياراتهم دون خوف من القمع أو الإرهاب. العاصمة البريطانية لندن مثلا تحولت الى عاصمة للمعارضين الإسلاميين.
تعايش الإسلاميون في أوروبا مع الأديان الأخرى كالمسيحية واليهودية والبوذية والهندوسية وغيرها من الديانات الجديدة والمبتكرة. وكان واضحا أن العلمانية الأوربية لم تقمع الدين أو تعاديه أو تحظر عليه النشاطات العامة- كما كان الخطاب الديني المتخوف من العلمانية يؤكد مرارا وتكرارا- لكن الذي حصل ان العلمانية أتاحت لكل الزهور ان تتفتح بشرط احترام الآخرين وعدم محاولة فرض أي رأي بالقوة.
رغم ذلك لم يغير الإسلاميون أو الخطاب الإسلامي موقفهم من العلمانية. لقد صاروا ينعمون يوميا بالحريات الدينية في الإطار العلماني بينما كانوا مقموعين ومحرومين من ابسط حقوق التعبير في الدول التي تصر دساتيرها على أن «دين الدولة هو الإسلام» ومع هذا لا زالوا يتغنون بالدولة الدينية ويلعنون العلمانية وويلاتها!
و رغم ذلك فقد أثرت العلمانية في «الإسلام الأوروبي» تأثيرا عميقا وإن يكن غير واضح للعيان. ذلك أن المسلم في أوروبا يختلف في تدينه عن المسلم في أي بلد عربي او إسلامي في انه يتدين دون وجود سلطة قهرية تجبره على الالتزام الديني. صار تدين المسلم الأوروبي تدينا فرديا والتزاما روحيا وليس خضوعا للعرف أو للأغلبية أو خوفا من العقاب. فرغم ان الشاب المسلم في أوربا يستطيع أن يلحد أو يغير ديانته متى شاء إلا أننا لا نجد حالات تستحق الذكر لمسلمين ألحدوا أو غيروا دياناتهم. هذه الحقيقة تدحض الاعتقاد السائد انه لا بد من وجود سلطة قهرية وقتل لا يرحم لأي شخص يلحد او يغير ديانته من اجل الحفاظ على الدين وإلا فإن الناس سيتركون الدين إذا تركنا لهم حرية الاختيار. الذي حدث هو العكس تماما فعندما وجد المسلم نفسه في أوروبا حرا في ترك الدين او تغييره او رفضه ازداد تمسكاً به لان الإسلام أصبح بالنسبة له نوعا من «الهوية الحرة» والاختيار الحر الذي يلتزم به دون سلطة على الضمير او إجبار اجتماعي او خوف من الموت. بينما نجد بيننا في الدول العربية والإسلامية نسبة مؤثرة من المسلمين الشكليين الذين يلتزمون بالشعائر الدينية خوفا من العقاب او خوفا من الموت لأنه لا يوجد لديهم أي خيار آخر.
هذا الفرق بين تدين المسلمين في البلاد العلمانية وتدين المسلمين في البلاد الإسلامية لم يفهمه الإسلاميون والمسلمون عموما بالشكل الصحيح. ولم يستوعبوا انه انجاز كبير للروح العلمانية ودليل على قدرة العلمانية على تحويل الأديان من سلطات وأوامر قهرية إلى التزام روحي حقيقي.
صارت لدى المسلمين أخيراً تجربة فريدة تثبت انه يمكن ان يكون هناك إسلام بلا دولة،وتدحض الاعتقاد التقليدي انه لا يمكن تطبيق الأحكام الإسلامية إلا في بلد تحكمه رقابة دينية . وكان مقدرا لتجربة الإسلاميين والمسلمين في أوروبا أن تحدث تحولا في الوعي الإسلامي تدفعه نحو الروح العلمانية لو فكر المسلمون فيها تفكيرا نقديا متحررا. فهي ليست التجربة الأولى للمسلمين كأقلية في مجتمع غير إسلامي. ولكنها التجربة الأولى للمسلمين كأقلية تتمتع بكامل حقوق المواطنة. فالمسلمون كانوا قليات في دول آسيوية وافريقية كثيرة ولكنهم كانوا أقلية مقموعة ومحرومة ومعرضة للقتل والإبادة والتنكيل.
كانت الحقيقة واضحة وبسيطة. فالعلمانية هي التي جعلت الأقلية الإسلامية أقلية مرفهة ومتمتعة بالحقوق الأساسية للمرة الأولى في تاريخها. لكن المثير للدهشة ان المسلمين في أوروبا يثورون ضد المبدأ الذي كفل لهم الحرية والكرامة والمواطنة المتساوية، ولا زالوا يلعنون العلمانية وهم يعيشون ويعملون ويبنون مساجدهم ويصلون ويتزوجون ويمارسون السياسة تحت مبادئها المتسامحة. ولنا ان نتخيل فقط كيف كان سيكون حال المسلمين لو كانت الدول الأوروبية تتبنى المسيحية كمبدأ رسمي وترفض مبدأ العلمانية وتقمع أي ممارسة علنية لأي ديانة أخرى غير الديانة الرسمية وتنظر لأبناء الديانات أخرى باحتقار أو كمواطنين من الدرجة الثانية غير مرغوب فيها في كل الأحوال؟
دعونا نتأمل أكثر في تناقضات الوعي الإسلامي نحو العلمانية. ففي الوقت الذي يلعن فيه الإسلاميون والكثير من المسلمين «الغرب الكافر» و»العلمانية الملحدة» نجدهم يستشيطون غضباً إذا شدد الغرب من شروط الهجرة وحدّ من تدفق المسلمين إلى أوروبا. فلماذا يتهافت المسلمون على العيش في العالم الغربي المادي الكافر عديم الروح؟ ولماذا يريدون من الغرب أن يفتح أبوابه على مصراعيه للمسلمين لكي يهاجروا ويعيشوا فيه؟ ما الذي يجذب المسلمين؟ هل هي فرص العمل فقط أم فرص الحياة الحرة الكريمة في ظل نظام سيعطيك كامل الحقوق بغض النظر عن انتمائك الديني؟
لماذا يكره المسلمون الغرب والعلمانية الغربية ولكنهم يستميتون للعيش في ظلالها؟ اعتقد أن الإجابة الآن أصبحت واضحة.
إن تجربة المسلمين في الغرب دليل ساطع على البعد الروحي والتحريري للعلمانية. فالعلمانية ليست فقط حلا للاستبداد الديني والسياسي ولكنها خيار أساسي لحرية الضمير وتفتح العقول. إنها تتيح للإنسان أن يتخلص من حالة الاغتراب التي يعيشها في ظل الأنظمة الدينية والقمعية فهو يعيش وجوده الحقيقي ويعبر عن انتماءاته الحقيقية دون تناقض بين ما يمليه عليه ضميره وما يمليه عليه مجتمعه.
كما كشفت تجربة المساواة التي حظي بها المسلمون في الغرب انه لا مساواة دون علمانية. فالمساواة تتنافى مع إعطاء قيمة مميزة لأي عقيدة على عقيدة أخرى أو جنس على آخر أو فئة اجتماعية على أخرى. وقد فشلت جميع الأنظمة الدينية في تحقيق المساواة لان بذور اللامساواة كانت دائما مزروعة في تفضيلها لدينها على الأديان الأخرى أو للرجل على المرأة أو لرجل الدين على عامة الناس.
على سبيل المثال لا زالت المرجعيات الإسلامية تجد صعوبة في التسليم الحقيقي بمواثيق حقوق الإنسان وتتحفظ على كثير من حقوق الإنسان وخاصة فيهما يتعلق بالمساواة وحرية المعتقد والضمير. كما لا زالت المرجعيات الاسلامية تبحث عن صيغ لحقوق الإنسان «اقل حقوقا» «وأقل مساواة» «وأقل حرية» من الحقوق المعترف بها عالميا.
كما ان تجربة المسلمين في اوروبا كشفت انه لا مواطنة بدون علمانية لان الحيادية الدينية هي الشرط الاول لكي يجد كل فرد نفسه على قدم المساواة مع الآخرين.
تتجلى أبرز جوانب الثورة الروحية للعلمانية في تمييزها بين حياة الإنسان الخاصة التي يحق له ان يعيشها كما يشاء وهي تتعلق غالبا بالأشياء التي يختلف فيها مع الآخرين (المعتقدات والقيم والديانات)، وبين بعده العام كمواطن وهو البعد الذي يتعلق بما هو مشترك بين الجميع (المواطنة والمساواة). هذا الفصل هو الذي يجنب المجتمع مخاطر القمع وفرض الآراء والمذاهب والديانات. وهذا يثبت لنا ان العلمانية ليست «اللادينية» ولكنها «الحيادية الدينية» في التعامل مع كل المذاهب والانتماءات الدينية والسياسية على قدم المساواة ،والحياد تجاهها دون تعصب أو انتصار لمذهب على آخر.
لقد أتاحت العلمانية للإسلام فرصة مهمة لكي يتحول إلى قوة روحية عميقة والغريب ان الذي أعاق هذا التحول هو المسلمون أنفسهم وعلى رأسهم الإسلاميون الهاربون إلى أوروبا. ومن الغريب ان يستمر المسلمون في اوروبا في انتقاد العلمانية وهم أكثر المستفيدين منها واكبر الخاسرين في حال غيابها!
حتى في معركتي منع الحجاب والنقاب نرى تجليات لروح التسامح العلماني وليس لقمع الممارسات الدينية كما يعتقد الكثيرون. إن قرار حظر ارتداء «الرموز الدينية» في المدارس قرار يسري على كل الديانات وليس على الإسلام فقط. فالنظام التعليمي الفرنسي يحظر «الإعلانات» الدينية سواء كانت إسلامية أو مسيحية أو يهودية. و قرار الحظر نفسه قرار دنيوي يستطيع المسلمون أن يعارضوه ويسعوا لتغييره بكل السبل السياسية الممكنة دون ان يتعرضوا لأي اضطهاد. فالعلمانية التي منعت ارتداء الرموز الدينية في المدارس لم تمنع ارتداءها في الشوارع مثلا، و رغم إصدارها للقانون فإنها تكفل الحق للمتضررين للاحتجاج واتخاذ كافة الضغوط والأساليب الممكنة لتغيير القرار.
لقد كان الدرس الأكبر للمسلمين في تجربتهم مع العلمانية الأوروبية أن الدين يجب أن يظل اختيارا روحيا مستقلا لان أي فرض إجباري له يحوله إلى استبداد والى قوة مدمرة للروح. كما أن الدين المفروض بالقوة يمكن أن يكون أكثر مادية من اي إيديولوجيا دنيوية.
لقد قامت العلمانية على تحرير العقول وتحرير الضمائر وهذا العمل التحريري لا يمكن ان يكون بأي حال من الأحوال ماديا او لااخلاقيا بل انه عمل روحي وأخلاقي من الطراز الأول. أما المادية واللااخلاقية فإنها تتمثل في قمع الفكر والضمير وحتى ولو كان ذلك يتم باسم الديانات العظيمة في التاريخ.